جيم شيريدان: تأريخ سينمائي لمشاعر منسية
Arab
5 days ago
share

منذ بدايته، اختار المخرج والكاتب المسرحي الأيرلندي جيم شيريدان أن يقف في الصف الإنساني للسينما، مُتخذاً من الشخصيات المهمّشة والقصص الواقعية خامة لرؤية فنية مخلصة تتجاوز حدود أيرلندا نحو العالم. في أفلامه لا توجد بطولات زائفة، بل معارك داخلية صامتة تُخاض في ساحات الضعف والخسارة والذاكرة. بأسلوبه الذي يمزج بين الحميمي والسياسي، الواقعي والشاعري، نجح شيريدان في بناء مسيرة سينمائية نادرة الاتساق لجهة القيم والموضوعات، ولو تنوعت الأساليب والأنواع.

شيريدان، الذي حل ضيف شرف على الدورة السادسة من مهرجان عمّان السينمائي الدولي 2025، تبرز مسيرته السينمائية بوصفها واحدة من أهم التجارب في سينما أيرلندا المعاصرة. يتميز بنظرته الإنسانية الثاقبة وروايته لقصص عاطفية عميقة تمنح صوتاً للمهمّشين وتعكس قضايا الهوية والصمود بأسلوب سينمائي مؤثر. أول من أمس، أقام شيريدان في عمّان ورشة احترافية (Master Class)، تحدث فيها عن تجربته، وهنا إطلالة عليها.

أطلّ جيم شيريدان على العالم من بوابة "قدمي اليسرى" (1989)، فيلمه الأول الذي اختصر فيه رؤيته: إنسان مقهور يحارب إعاقته وسط بيئة قاسية، مدعوماً بالحب والعائلة. حياة كريستي براون – الفنان المعاق حركياً – حوّلها شيريدان إلى درس في الإرادة، وبيان فني عن معنى الدعم الأسري في وجه مجتمع لا يرحم. تمثيل رائع من دانيال دي لويس، وإخراج يستنطق الألم بلا ابتذال.

في "الحقل" (1990)، يوسّع شيريدان اهتمامه من الفرد ليطاول الأرض بوصفها امتداداً للهوية والذاكرة. عبر شخصية الثور ماككيب، يصور المخرج انفجار العناد الريفي أمام التحديث، في مأساة تُشبه التراجيديا اليونانية. هنا، الأرض ليست تراباً فقط، بل ميراثاً يتقدّس، وأي مساس به يعني زعزعة جوهر الذات.

في "باسم الأب" (1993)، يبلغ شيريدان ذروة اشتباكه مع السلطة. يستند الفيلم إلى قضية "الأبرياء الأربعة"، ليُظهر فساد القضاء البريطاني وتواطؤه ضد الأيرلنديين. لكنه لا يكتفي بالإدانة، بل ينقّب في العلاقة المعقدة بين الأب والابن خلف القضبان. إنه فيلم عن البحث عن الحقيقة داخل ظلال القهر، وعن المصالحة العاطفية تحت سطوة الظلم.

في "الملاكم" (1997)، يعود شيريدان إلى بلفاست، لا يصور فيه الصراع الطائفي المباشر، بل يركز على رجل يحاول أن يعيش بعدما تعب من الحرب. داني فلين، الملاكم الخارج من السجن، يصبح تجسيداً لفكرة التغيير الفردي في بيئة غير مستعدة للتسامح. حلبة الملاكمة ليست سوى استعارة لبلد منهك.

في "في أميركا" (2002)، يغادر شيريدان أرض أيرلندا من دون أن يغادر ثيماته. قصة عائلة مهاجرة إلى نيويورك بعد فقدان ابنها. ليست هذه الحكاية سوى تأمل جديد في معنى التماسك الأسري وسط الألم. هنا، العيون الطفولية تقود السرد، فتمنح القصة بُعداً حلمياً وسط واقع خشن. يتقاطع الحزن مع الأمل، وتصبح الهجرة مجازاً عن الرحلة الداخلية نحو الشفاء.

في "اكسب المال أو مت وأنت تحاول" (2005)، يدخل شيريدان عالم الهيب-هوب والعصابات في أميركا عبر سيرة مغني الراب الشهير 50 سنتاً. رغم ابتعاد الفيلم عن جذوره الأيرلندية، نلمس فيه محاولته فهم الشخصيات الهشة خلف الأقنعة الصلبة، واستكشاف ثيماته المعتادة (الفقر والأسرة والنجاة) في بيئة جديدة.

في "بيت الأحلام" (2011)، يغوص شيريدان في الرعب النفسي، مستعرضاً كيف يمكن للصدمة أن تخلق واقعاً بديلاً. الفيلم أقل نضجاً من أعماله السابقة بسبب تدخلات الإنتاج، لكنه يبرز فضوله الفني ورغبته في اختبار أنواع جديدة.

يعود المخرج في "إخوة" (2009) إلى صلب اهتمامه: الأسرة تحت ضغط الحرب. يركّز العمل على تداعيات الصدمة على العائلة لا على المعركة نفسها، ويظهر كيف يمكن للبيت أن ينقلب إلى ساحة صراع صامت. أداء توبي ماغواير يُعطي للقصة عمقاً نفسياً شديداً.

أما "الكتاب السرّي" (2016)، فهو فيلم عن الصمت الطويل، عن نساء دفنهن المجتمع خلف أسوار المؤسسات الدينية. في هذا العمل، يعود شيريدان إلى بلده وتاريخه، ويكشف بأناقة بصرية وخطّين زمنيين متوازيين كيف يمكن للحب أن يُجرّم، وللذاكرة أن تُنقذ الكرامة.

تركّز أفلام جيم شيريدان على تجارب إنسانية عميقة تتمحور حول الصمود، والهوية، والعدالة الاجتماعية. شخصياته غالباً من المهمّشين والطبقة العاملة: أفراد من ذوي الإعاقة يسعون إلى إثبات الذات، ومهاجرون يبحثون عن فرصة لحياة أفضل، أو سجناء أبرياء يصارعون ظلم المنظومات. العائلة تحتل مركزاً عاطفياً في معظم أفلامه، سواء كانت علاقة أم بابنها من ذوي الإعاقة، أو أب بابنه المتهم، أو إخوة مزّقتهم الحرب.

تظهر ثيمة الهجرة والاغتراب بوضوح في "في أميركا"، مقترنة بثيمة الفقر والنضال اليومي من أجل الكرامة. أما العدالة، سواء القانونية أو الأخلاقية، فهي مبدأ جوهري في عالم شيريدان، كما يتجلّى في أفلام مثل "باسم الأب" و"الكتاب السري". ومن خلال هذه الثيمات، تمنح أفلامه جمهورها تجربة إنسانية عالمية تنبع من بيئة محلية ذات خصوصية، لتصل إلى مشاعر مشتركة على امتداد العالم.

يعتمد شيريدان أسلوباً بصرياً واقعياً وحميماً يخدم السرد من دون تكلّف. كاميراه قريبة من شخصياته، تلاحق وجوههم وأيديهم، كما في افتتاحية "قدمي اليسرى" التي تبدأ بقدم كريستي براون. يصوّر البيئات بتفاصيل دقيقة: أزقة دبلن، والحقول الريفية، والزنازين الباردة، وأحياء نيويورك الصاخبة. رغم الواقعية، لا تخلو أفلامه من لمحات شعرية، نلاحظ ذلك في تقسيم "قدمي اليسرى" إلى فصول مستوحاة من لوحات البطل، أو توظيف التباين اللوني بين عتمة الواقع وبريق الأمل.

الرمزية البصرية أيضاً حاضرة: حلبة الملاكمة ترمز للوطن المنقسم في "الملاكم"، والمنزل يصبح كياناً نفسياً هشاً في "بيت الأحلام". أسلوبه البصري يتسم بالصدق والبساطة، ويضع الكاميرا في خدمة القصة والشخصيات.

جوهر أفلام جيم شيريدان يكمن في دراما العلاقات الإنسانية، لا سيما الروابط العائلية والصداقة. يتعمّق في رسم ديناميكيات هذه العلاقات تحت الضغط، كاشفاً تحوّلات النفس البشرية من خلال التفاعل. الأمومة تُقدَّم قوةَ خلاص في "قدمي اليسرى"، الأبوة تُقترح بوصفها ضميراً حياً في "باسم الأب"، والأخوّة رابطة قاسية الاختبار في "إخوة". حتى في "اكسب المال أو مت"، الدافع الأساسي للبطل ليس المجد بل علاقته بأمه وابنه. أما في "في أميركا"، فالصداقة مع الجار الغريب تمثل عزاءً روحياً للعائلة. هذا التركيز على الحميمية العاطفية يمنح أفلامه عمقاً وجدانياً متفرداً.

رغم أن سرد شيريدان ينطلق من شخصيات فردية، فإن خلفية أحداثه تنبض بالقضايا الكبرى. في ثلاثيته غير الرسمية عن أيرلندا ("قدمي اليسرى"، و"باسم الأب"، و"الملاكم")، يعرض بانوراما عن الفقر والصراع السياسي والطائفي. في "في أميركا"، يتناول قضايا الهجرة، بينما يرصد في "اكسب المال أو مت" العنف الحضري في الولايات المتحدة. لا يطرح السياسة بخطابية، بل يذيبها في سياق التجربة الفردية. الرسالة الأخلاقية حاضرة بوضوح، لكنها تصل عبر المشاعر لا عبر الشعارات.

تتسم أفلام شيريدان بعاطفة صادقة بعيدة عن الابتذال. يبني ذروة المشهد بتراكم إنساني، معتمداً على الأداء الطبيعي والتفاصيل الدقيقة. لحظات مثل احتفال الأسرة بإنجاز كريستي في "قدمي اليسرى"، أو اعتذار جيري لوالده في "باسم الأب"، تأتي مؤثرة لأنها متجذرة درامياً. شيريدان يعرّي ضعف أبطاله لكنه يحتفي بكرامتهم، ويوازن بين القسوة والرجاء، ما يمنح أفلامه قدرة على انتزاع التأثر الحقيقي.
رسّخ جيم شيريدان مكانته عبر قدرته على دمج الحكايات الشخصية بالهموم السياسية والاجتماعية في صياغة فنيّة تحمل بصمة أيرلندية واضحة ونبضاً إنسانياً. أفلامه تتنوع زماناً ومكاناً، من دبلن إلى نيويورك، لكنها جميعاً تعكس إيماناً عميقاً بقدرة السرد البصري على كشف الحقيقة وإلهام التعاطف. إن المواضيع التي يعالجها – الهجرة والهوية، الظلم والعدالة، العائلة والتضحية، الفقر والطموح – تجد صداها في نفوس المشاهدين لأنها صادقة ومنحازة إلى الإنسان البسيط.

أسلوبه الإخراجي يجمع الواقعية بالشاعرية، ويحافظ على نزاهة فنية بعيدة عن التكلف، مرتكزاً على قوة الأداء وروعة القصة. ففي نهاية المطاف، لم يكن جيم شيريدان صانع أفلام بالمعنى التقليدي، بل مؤرّخاً للمشاعر المنسية. أبطاله ليسوا منتصرين دائماً، لكنهم دائماً صامدون. من أيرلندا إلى أميركا، من الحقل إلى الزنزانة، من صدمة الحرب إلى وجع الهجرة، بنى شيريدان سينما تحفر في الوجدان، وتتركنا نسائل أنفسنا: ما الذي يجعل الإنسان قادراً على الاستمرار؟ الجواب في أفلامه دائماً يبدأ من الحب.

ليس غريباً بعد هذا كله أن يكون شيريدان ضيف الشرف المحتفى به في مهرجان عمّان السينمائي 2025، إذ تُعرض أعماله وتُناقش تجربته الممتدة منذ "قدمي اليسرى" (1989)، وحتى أحدث مشاريعه "إعادة إحياء" (2025). إنها فرصة للاحتفاء بمخرج قدير شكّل صورة السينما الأيرلندية عالمياً، وأغنى السينما العالمية بروائع تكرّم الكرامة الإنسانية وتنتصر للأمل والحقيقة في نهاية المطاف.

Related News

( Yemeni Windows) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

All rights reserved 2025 © Yemeni Windows