
نجح فريق بحثي دولي في فكّ الشفرة الجينية الكاملة لإنسان عاش في مصر القديمة، بعد استخراج الحمض النووي من أسنان رجل مسنّ دُفن قبل أكثر من 4500 عام. تكشف الدراسة، التي نشرتها مجلة نيتشر في الثاني من يوليو/تموز الحالي، عن مفاجآت مذهلة بشأن أصول هذا الرجل، والعلاقات المعقّدة التي ربطت مصر القديمة بمناطق بعيدة مثل الهلال الخصيب.
الرجل، الذي يُعتقد أنه كان يعمل خزّافاً، عاش خلال ما يُعرف بعصر الدولة القديمة، وهي الحقبة التي شُيّدت فيها أهرامات الجيزة الشهيرة. وقد عُثر على رفاته عام 1902 داخل قبر منحوت في الصخر بقرية النويرات في محافظة سوهاج جنوبي مصر، حيث وُضع جثمانه داخل وعاء فخاري، في تقليد جنائزي يرمز إلى مكانة اجتماعية عالية، وإن لم يكن من النخبة الحاكمة.
اللافت في هذا الكشف أن الحمض النووي أظهر أن نحو 80% من أصول هذا المصري القديم تعود إلى شمال أفريقيا، وهو ما كان متوقعاً. لكن المفاجأة كانت في الـ20% المتبقية، التي تشير إلى أصول من منطقة الهلال الخصيب، وتحديداً من العراق وسورية وإيران الحالية.
يقول جويل آيرش، أستاذ الأنثروبولوجيا الحيوية في جامعة ليفربول جون مورس والباحث المشارك في الدراسة: "هذه أول مرة نحصل فيها على جينوم بشري كامل من مصر القديمة. إنه بمثابة نافذة وراثية نادرة على واحد من أقدم فصول التاريخ البشري في وادي النيل".
تشير النتائج إلى أن المجتمعات القديمة في مصر وبلاد الرافدين ربما كانت أكثر ترابطاً مما كان يُعتقد. ويضيف آيرش في تصريحات لـ"العربي الجديد": "عثرنا على تشابه جيني مع شعوب كانت تعيش في بلاد ما بين النهرين، مثل السومريين. قد يكون هذا نتيجة اتصال مباشر، أو عبر تواصل غير مباشر من خلال مجتمعات متنقلة أو مختلطة لم ندرسها بعد."
وتعزّز هذه الفرضية أدلة أثرية كانت معروفة سابقاً، مثل التشابه في الزخارف الفنية بين الحضارتين، والتبادل التجاري بسلع ثمينة كحجر اللازورد، الذي كان يُجلب من أفغانستان عبر طرق التجارة القديمة.
وفاجأ الحمض النووي الذي جُمع من جذور أسنان الرجل الباحثين، نظراً إلى أن الظروف البيئية في شمال أفريقيا عادة ما تؤدي إلى تدمير المادة الوراثية. لكن دفنه في وعاء فخاري داخل قبر صخري ساعد على حفظ الرفات في بيئة مستقرة نسبياً.
يقول أحد المؤلفين المشاركين إن مجرد محاولة استخراج الحمض النووي من بقايا تعود إلى تلك الحقبة كان بحدّ ذاته تحدياً كبيراً، إذ كان الاعتقاد السائد أن المناخ الحار يدمّر الجينات. غير أن الفريق البحثي راهن على أن طريقة الدفن قد تكون ملائمة للحفظ، وقد صدق الرهان.
وتُظهر تحاليل العظام أن الرجل كان في الستين من عمره عند الوفاة، وهو عمر متقدّم جداً في تلك الفترة. كما كشفت بقايا هيكله العظمي عن معاناته من التهاب المفاصل وهشاشة العظام، ما يدلّ على حياة مرهقة بدنياً.
وبتحليل نمط التآكل في مفاصله، يُرجّح الباحثون أنه قضى معظم وقته في وضعية جلوس وانحناء إلى الأمام مع مدّ الذراعين، وهي أوضاع تتناسب مع مهن يدوية مثل صناعة الفخار. وتُظهر الصور المحفوظة من تلك الفترة مثل هذه الوضعيات بين الحرفيين. "نستطيع تأكيد أنه عاش ما بين عامي 2855 و2570 قبل الميلاد، أي إنه كان معاصراً لأوائل عصور الأهرامات، وهي فترة حاسمة في تطوّر الدولة المصرية"، يقول الباحث.
ورغم أن محاولات استخراج الحمض النووي من المومياوات المصرية بدأت منذ ثمانينيات القرن الماضي، إلا أن معظمها فشل بسبب التلوث أو تحلّل المادة الوراثية. وفي الدراسة الجديدة، استخدم الفريق تقنيات متقدّمة لتجنّب هذه المشكلات، فضلاً عن أن طبيعة الدفن غير التقليدية حافظت على البقايا بدرجة عالية.
ويعتقد المؤلفون أن هذا الاكتشاف يدفع الباحثين إلى إعادة التفكير في طبيعة العلاقات القديمة بين وادي النيل وحضارات الشرق، ليس فقط على المستوى الجيني، بل الثقافي أيضاً.

Related News
