هل ما زال في القاهرة ما يُروى؟
Arab
5 days ago
share

قالوا إن نجم "القاهر" (المرّيخ) كان في الأفق لحظة التأسيس، فسمّاها الفاطميون القاهرة. كان ذلك في 6 يوليو/ تموز 970 (17 شعبان سنة 358هـ). تأتي ذكرى ميلاد القاهرة، ومعها الحكايات، حكايات ما قبل التأسيس، فتكشف آثار عصور ما قبل الأُسرات الفرعونية مدينة مأهولة، حتى قبل قيام الدولة المصرية القديمة. حكايات الآثار الفرعونية في منطقة عين شمس (أون) القديمة، وهليوبوليس. حكايات الآثار اليونانية والرومانية في منطقة مصر القديمة، وحصن بابليون الذي بناه الرومان، والمتحف القبطي، وأفنية الكنائس التي تحمل ما تبقّى من أعمدة ومبانٍ يونانية ورومانية.
حكايات آثارنا القبطية: الكنيسة المعلّقة، وكنيسة أبي سرجة، التي يُقال إن العائلة المقدّسة احتمت بها، وأحياء كاملة تحكي تاريخنا القبطي المغدور. حكايات آثارنا الإسلامية، من الفتح العربي لمصر (641)، وبناء مدينة الفسطاط، ثمّ العسكر والقطائع، وأخيراً القاهرة: الجامع الأزهر، والسلطان حسن، وابن طولون، والقلعة، والمعزّ، والغورية، وعشرات الأحياء والمساجد والمآذن، والبيمارستانات. حكايات آثار يهودية: معابد، وأحياء، بعضها اندثر، وبعضها لا تزال آثاره قائمة، وحكاياته حاضرة. حكايات الدولة الحديثة التي تشكّل امتداداً حضاريّاً وعمرانيّاً للأحياء الفاطمية والمملوكية والعثمانية، بآثارها، وقصورها، وسراياتها، ومدارسها، ومسارحها، وسينماتها، وعماراتها الأنيقة، وميادينها التي شهدت الثورات والتظاهرات، ومرارات الهزائم، واحتفالات النصر. حكايات امتلأت بها كتب الرحالة والمؤرّخين والمستشرقين والمولعين بالقاهرة، من كلّ بلد وثقافة. حكايات مدينة تتقاطع فيها الحِقب التاريخية، والطبقات الحضارية، والتحوّلات الاجتماعية والسياسية، فلا تهدأ، ولا تنام.
غادرتُ مصر هارباً من "الجمهورية الجديدة" قبل عشر سنوات، وحملتُ معي كتباً عن تواريخ مصر والقاهرة والإسكندرية، ودواوين وروايات ومجموعات قصصية ومسرحيات. مائة عنوان تقريباً، وضعتُها في حقيبة كبيرة أغرَت لصّاً تركيّاً مجتهداً، فاحتفظ بها، وتركني غريباً عن البلاد وحروفها. في إسطنبول، قابلتُ في حافلة أكاديميّاً تركيّاً أعدّ رسالة الدكتوراه في الجامعة الأميركية بالقاهرة، وكانت عن تلّ العمارنة. انتبه الرجل إلى لهجتي المصرية وميّزها، وسألني بإنكليزية سليمة (وهذا نادر في تركيا): مصري؟ قلت: نعم. فظلّ الرجل يحكي عن ذكرياته مع "القاهرة الخديوية" (في التسعينيّات)، وتحديداً عن مقاهي المثقّفين، ومعارض الفنون التشكيلية، وأماكن عرض المسرحيات التجريبية. وحين أخبرته عمّا حدث لمقاهي البورصة وشارع شامبليون، سكت قليلاً، ثمّ قال: غير معقول. ثمّ أعادها، كمن يتفقّد ذاكرته: مصر؟... مصر؟
شاركتُ في إعداد برنامج "وجوه من الخليج" في "التلفزيون العربي"، وسافرتُ إلى عدّة عواصم عربية، والتقيتُ بمثقّفين من الخليج، أصحاب تجارب متنوعة. تجارب قد لا يجمع بينها سوى "محطّة مصر"؛ حيث مرّوا للدراسة الجامعية، أو لتحضير الماجستير أو الدكتوراه. سمعتُ منهم حكاياتٍ عن قاهرة الخمسينيات (قبل ثورة 23 يوليو 1952 وبعدها)، وقاهرة الستينيّات والسبعينيّات (وقت الانتصار وتوقيع اتفاقية السلام)، وقاهرة الثمانينيّات. حكاياتٌ كثيرة ملهمة، ومتنوعة، وثرية. حكايات تكشف جوانب لا يعرفها "ابن البلد"، أو (على الأرجح) لا يعي أهميتها، بحكم الألفة والعادة.
يحكي لنا الكاتب الكويتي سليمان العسكري عن القاهرة الناصرية، وكيف بدأت علاقته بها في الكويت، حيث كانوا يسمّون الراديو "صندوق أحمد سعيد"، وكان الكويتيون يلتفّون حول إذاعة مصر في "المجالس" لسماع "الستّ"، ومعرفة "أخبار الدنيا". يحكي عن الجامعة وأنشطتها الطلابية، ومناهجها، وأساتذتها الكبار. عن حفلات أمّ كلثوم التي التقى فيها كبار شعراء مصر ونقّادها ومبدعيها. عن المسرح، والسينما، وعن اللوحات التي رآها، والتي اشتراها من معارض الفنون، وعن جمال عبد الناصر.
يحكي غيرُ واحدٍ من أجيال السبعينيّات والثمانينيّات عن الحياة الثقافية في مصر، التي كانت (بالنسبة إليهم) أكثر أهمية من الحياة الجامعية. الحياة التي تعرّفوا فيها إلى أنفسهم، واكتشفوا مواهبهم، وأدركوا حرفة الأدب، قبل أن تُدركهم. يحكي الروائيون كلّهم (وليس أغلبهم) عن دور نجيب محفوظ في حيواتهم، وظلاله في صفحاتهم. كلّهم حكوا عن القاهرة كما عرفوها، فهل نملك الآن ما نرويه عنها؟ أم أننا نعيش في قاهرة تتنكّر لظلالها، وتدفن ذاكرتها حيّة؟

Related News

( Yemeni Windows) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

All rights reserved 2025 © Yemeni Windows