نافذة على كنيس إلياهو
Arab
5 days ago
share

خلف تلك النافذة، في واحدة من قاعات صفوف الطابق الثاني من البناء القديم، كان هناك عالم مختلف، لكنّي (كغيري) تعايشت معه. احتلّت النافذة معظم الجدار المقابل للسبّورة. تفتح دفّتي النافذة فتلقاكَ قضبانُ حديد سوداء، تتدلّى خلفها ستارةٌ حمراء، ما أن تبعدها بيدك حتى تلمع في عينيك ثريّات ضخمة تتدلّى من سقف عالٍ محمول على أعمدة وقناطر. تنظر إلى الأسفل، فترى مقاماً محاطاً بإطار حديدي أخضر اللون، وعليه قطعة رخام أبيض نقش عليها بالعربيّة والعبريّة، وفوقها مينوراه (شمعدان سباعي) ذهبي اللون. لا تخلو الجدران العالية من زخارف وحروف وفوانيس، ورفوف لصحائف ملفوفة. في الوسط "بيما" (منبر) مرتفعة بضع درجات بسور خشبي أزرق اللون... كنتُ أتشوّق لأنهي دوامي في مدرسة اليازور في حيّ جوبر الدمشقي، فأعبر بابَ حديد أخضر اللون (في سور فاصل) إلى مدرسة المجيدل الإعدادية. تبعت المدرستان وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا). كنت أنتهز فرصة انشغال والدي الراحل (كان مديراً لـ"المجيدل") ببعض الأمور الإدارية قبل أن يصحبني عائدَين إلى المنزل، فأصعد إلى تلك القاعة لأبدأ طقوس التأمل متلصّصاً على كنيس إلياهو، واحد من أقدم الكُنس اليهودية في العالم. كانت الأرض، وكتل البناء القديمة فوقها (في المدرستَين)، من أملاك الكنيس، استأجرتها الوكالة، وأضافت إليها كتلة بناء جديدة لتوسيع المدرسة الإعدادية.
لم يشكّل وجود كنيس إلياهو مشكلةً لسكّان الحيّ، ولا لتجمّع كبير من الفلسطينيين فيه، بل قدّسه مسلموه لاعتقادهم أنه مقام للنبي الخضر. لم يكن في جوبر آنذاك سوى عائلة يهودية واحدة، عائلة سادن كنيس إلياهو، أمّا تجمّعهم الرئيس فكان حيّ الأمين (حارة اليهود)، حيث شكلوا، ومعهم فلسطينيون، غالبية السكّان. ومع التمييز الأمني بحقّهم في ظلّ حكم حافظ الأسد، عاش السوريون اليهود مع جيرانهم في أريحية اجتماعية وثقافية، وفي سلم وتعاون، فاعتمد اليهود على جيرانهم لينوبوا عنهم في القيام ببعض أعمالٍ يوم السبت: الطهو، والإصلاحات الطارئة، وإنارة الكهرباء... كانت شعارات الثورة الفلسطينية، وصور رموزها، تعلّق على جدران منازل اليهود، ومعها أوراق نعي شهداء فلسطينيين قضوا في معارك مع الاحتلال الصهيوني، من دون أن تشكّل استفزازاً لهؤلاء الجيران. لم تكن العلاقات باليهود العرب تقوم على التسامح الديني (تذبذب غير مرّة في تاريخ سورية الحديث) فحسب، فهؤلاء لم يكونوا في دمشق دخلاء، بل أصبحوا جزءاً من الهُويَّة المحلّية: يتحدّثون اللهجة الشامية، ولا يختلفون ملبساً وغناءً وطبيخاً. ومع إعلان قيام إسرائيل (1948)، أصبح اليهودي في نظر محيطه امتداداً محتملاً لكيان غريب، وبدت اليهودية رمزاً لدولة استعمارية دمجت الدين بالسياسة، فأصبحت اليهودية قضية أمن قومي في الوعي الجمعي العربي. لكنّ المشهد في الحيّ ظلّ هادئاً، رغم توتّر كامن في الخلفية، وكان التعايش ممكناً، وكانت مقولة "نحن لسنا ضدّ اليهود، بل ضد إسرائيل" أكثر من شعار تبريري، والتعايش أكثر من يوتوبيا.
عند زيارة وفد يهودي أميركي (فبراير/ شباط الماضي) بعد سقوط نظام الأسد، كان المتبقّي من يهود دمشق خمسة أفراد فقط، ولم تكن هناك طائفة. كانت الزيارة، بتنسيق مع السلطات السورية الجديدة، أكثر من تسامح ديني، ترسل رسائل سياسية إلى الأميركيين والإسرائيليين، ولا يُعرف أين ستتوقّف، مع توالي تقارير عن اجتماعات سورية إسرائيلية، في غياب الشفافية على المستوى الرسمي في هذا الملفّ الحسّاس. والمتداول أن زيارات اليهود مستمرّة، وعبّروا عن رغبتهم في استعادة أملاكهم وإعادة بناء ما تدمّر من كُنسهم (كنيس إلياهو خصوصاً)، ولا غضاضة لدى عموم السوريين في التعايش معهم مجدّداً، شرط أن يبقى ذلك في إطاره الإنساني، لا السياسي. لا مشكلة لهم مع جار قديم قاسموه اليومي، وصنعوا وإياه ذاكرةً مشتركةً، طالما لم يتحوّل مواطناً في دولة عدوَّة. الفرق شاسع بين التعايش مع يهودي ظلّ مرتبطاً بجذوره المحلّية وتطبيع يُفرض تحت شعارات الواقعية السياسية مع دولة استعمارية إحلالية، تمارس القتل والاقتلاع، وتحتل أراضي عربية وسورية. قد يتيح التعايش إمكانية إعادة وصل ما انقطع على المستوى الإنساني، لكنّ التطبيع، المروّج له في عموم المنطقة، يسعى إلى طيّ الصراع من دون معالجة أسبابه الجوهرية (الاحتلال)، فلا يمكن تجميل استعمار تحت أيّ حجّة سياسية.
بالمناسبة، لم أدخل كنيس إلياهو من بابه قط، واكتفيت بالمراقبة عبر النافذة.

Related News

( Yemeni Windows) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

All rights reserved 2025 © Yemeni Windows