
يكتب الكاتب عن نفسه، فيلج ما يشبه لحظةً مراوغةً، فتجاور رغبةُ الإمساك بالحقيقة الإقرارَ الضمني بأن هذه الحقيقة لا تُمنح إلا عبر اللغة، أي عبر التمثيل الذي لا يخلو من تحويل وقولبة وتلاعب، فالذات تدرك جيّداً أنها ليست معطًى جاهزاً أو جوهراً نقيّاً ينتظر الكشف، بل هي (مثلما تقول الحداثة وما بعدها) بناءٌ متحرّك، متعدّد، ومُتنازَع عليه، يتشكّل ضمن الزمن واللغة والموقع والذاكرة. لذا، فإن الكاتب لا يستعيد ذاتَه في سيرته، بقدر ما يصنعها، وهنا يكمن جوهر التحوّل من كاتبٍ يروي إلى شخصيةٍ تُروى، ومن فاعلٍ إلى مفعولٍ به داخل نصّ أدبي يُعيد ترتيب الحياة كما لو كانت روايةً.
فنحن، حتى حين نقف أمام مرآة صادقة، لا نرى فعليّاً سوى صورة محدودة، جزئية، من زاوية واحدة وفي لحظة معينة. والحال أننا لا نرى أنفسنا كما نحن، بل كما نودّ أن نراها، ذلك أن الرؤية انعكاسٌ مشروطٌ بالمقدرة على مواجهة الواقع، بأخذ المسافة الكافية، بالبُعد والضوء والوهم، وأيضاً بالرغبة. المرآة تعكس الشكل، السطح، لكنّها لا تكشف العمق، وما نراه في المرآة لا يكون أبداً موضوعياً، لأنه محكوم بعلاقتنا بذواتنا، بجرحنا النرجسي، بذاكرتنا الحسّية، بتاريخنا، بما نكبت أو نُضخّم، وبما ننسى ونعيد إنتاجه. فإذا كانت الصورة البصرية للذات خاضعةً للوهم، كيف يمكن للّغة، بكلّ ما تحمله من محدودية ومجاز، أن تفي بعرض "أنا" كاملة، مركّبة، متقلبة، متعدّدة، وذات طبقاتٍ يصعب فكّ تشابكها؟
عندما يشرع الكاتب في كتابة سيرته، يُجري نوعاً من الانفصال البنيوي عن ذاته. يصبح من كان فاعلاً في الحياة، مفعولاً به في النصّ. يتحوّل كائناً لغوياً حيث اللغة لا تنقل، بل تُعيد التشكيل، وتصبح الذات مادّةً سرديةً تخضع لآليات الانتقاء والتكثيف، الحذف وإعادة التأويل، مع ترتيب الزمن وافتعال التناسق بين ما يفتقد التناسق أصلاً. ولأنّ الحياة لا تسير وفق منطق حكائي، تضطر السيرة إلى خلق منطقها الخاصّ، فنراها تُقيم روابط سببية، تمنح دلالات، تستخرج معنىً من الفوضى، وتُضفي "قصّةً" على ما كان ربّما مجرّد صدفة أو عبثاً. بهذا، لا تكون الذات في السيرة هي الذات التي عاشت، بل تلك التي تُصاغ عبر الكتابة، أي تلك التي أُعيد تخيّلها لتُصبح قابلةً لأن تُروى، لأن تُفهم. يتحوّل الكاتب روائياً لذاته، وتصبح "أنا السرد" كائناً آخر، مختلفاً عن "أنا الحياة".
وبرغم أن ما يُطلب من السيرة هو أن تكون "صادقة"، فهناك التباس حول معنى الصدق حين يتعلّق الأمر بالذات: هل هو الصدق الوقائعي، أي سرد ما حدث فعلاً، أم الصدق الشعوري، أي استرجاع طبيعة الأحاسيس كما كانت، أم أنه الصدق الأخلاقي، أي عدم التزييف أو التجميل أو التورية؟... لا ريب في أن معظم هذه المعايير تتحطّم أمام الواقع اللغوي، لأنّنا ما أن نبدأ بالكتابة حتى ندخل حقل التمثيل، أي إعادة صوغ التفاصيل، من دون أن ننسى أن الذاكرة بطبيعتها خائنة، لأنها تحتفظ، لا بما عشناه فعلاً، بل بما أثّر فينا ورسخ، وبما أردنا نسيانه ولم نفلح... هكذا، فإن كلّ سيرة ذاتية، حتى إن نوت الصدق، تتحوّل شكلاً من أشكال التخيّل الذاتي، فأمكن القول إن السيرة الذاتية مشروع ذاتي وأدبي وفلسفي يُعيد خلق الكاتب في صورة جديدة: شخصية من ورق تقول ما لم يُقل، وتسكت عمّا لا يمكن قوله. إنها مرآة منحوتة باليد، تعيد خلق الذات من خلال اللغة، مع العلم أن اللغة لا تعكس، بل تبني، لا تصف، بل تُمسرح. وكأنّ الذات لا تُكتَب لتُعرّى، بل لتُعاد هندستها بطريقة قابلة للعيش، أو قابلة للفهم.
لكن يبقى السؤال، هل الهدف من السيرة الذاتية تصوير الذات الحقيقية؟ أليس المطلوب بالأحرى نوعاً من الصدق الأدبي، وليس الحقيقة بمعناها الواقعي؟ أي أنْ يروي الكاتب نفسه بالطريقة التي تُمكّنه من الفهم، من المعنى، من النجاة، فربّما كنّا نكتب أنفسَنا، لا لنقول من كنّا، بل لنُقيم شكلاً يمكننا أن نتعايش معه، أو يمكّننا من الفهم. فلا الذات "الحقيقية" موجودة خارج اللغة، ولا اللغة قادرة على أن تُمسك بها تماماً. هكذا، يبقى كلُّ ما نكتبه عن أنفسنا محاولةً ناقصةً، إنما جريئة، وضرورةً لا غنى عنها.

Related News
