أنا وعلم الأحياء
Arab
6 days ago
share

بقدر ما تستهويني العلوم الطبيعية (من فيزياء وفلك وكيمياء... إلخ) بكل ما فيها من إبداعات مذهلة لا تخفى على ذي عينين في هذا العصر، إلّا أنني أجد في نفسي أنفِرُ من علم الأحياء، فلا أكاد أتابع اكتشافاته إلّا لماماً.

أنا لا أجهل مقام علم الأحياء في هذا العصر، إذ يمكننا القول بلا مراء إنّ القرن الحادي والعشرين هو قرن علم الأحياء بامتياز. يتجلى ذلك بوضوح في ثوراته العلمية المتلاحقة، بدءاً من اكتشاف تركيب الحمض النووي الريبوزي منقوص الأكسجين (DNA) في خمسينيات القرن الماضي، مروراً بمشروعات جبّارة كالاستنساخ والخلايا الجذعية ومشروع الجينوم البشري، وصولاً إلى انطلاق مشروع البروتيوم البشري (The Human Proteome Project) في بداية هذا القرن.

ومع إدراكي لتلك الإنجازات الهائلة، فإنّني أظل أرى الفيزياء تقف على الضفة الأخرى، شامخة ومذهلة، تواصل تقديم ابتكارات فاقت الخيال العلمي، تتسارع كما لو كانت سيارة في منحدر بلا فرامل.

فلولا الفيزياء، وبالأخص ميكانيكا الكم (Quantum Mechanics)، لما استطاع العلماء فهم التركيب الجزيئي للـDNA. يقول جون جريبين في كتابه تاريخ العلم: "إن فهمنا للقاعدة الجزيئية للحياة جاء بعد فهمنا لقواعد ميكانيكا الكم".

تبرز الفيزياء بوصفها أمّ العلوم؛ تمد غيرها من العلوم بأدواتها ومفاتيحها، وتنتج منها فروعاً جديدة، مثل كيمياء الكم التي تنبني على المبادئ الفيزيائية

وهكذا تبرز الفيزياء بوصفها أمّ العلوم؛ تمدّ غيرها من العلوم بأدواتها ومفاتيحها، وتنتج منها فروعاً جديدة، مثل كيمياء الكم التي تنبني على المبادئ الفيزيائية أساساً.

لكن، ما الذي شكّل موقفي هذا من علم الأحياء؟ ولماذا اخترت الفيزياء بالذات؟

قد يعود السبب إلى تجربة شخصية مؤثرة. في عام 1994، التحقت بجامعة الأنبار في العراق، وكان تخصّصي الممنوح آنذاك هو الميكروبيولوجي (علم الأحياء الدقيقة). وفي أول يوم لي في الجامعة، حضرت محاضرة في هذا التخصّص. ولسوء الحظ، كان أستاذ المادة يجري اختباراً شفهياً للطلبة، لأنهم كانوا قد بدأوا دراستهم قبل وصولي. كان الأستاذ، بحسب وصف الطلبة، لا يكتفي بتعنيف من لا يجيب عن أسئلته، بل يسخر منه علناً بطريقة جارحة.

يمكنك، عزيزي القارئ، أن تتخيّل حالتي حينها؛ غريب بين الطلبة، لا أفهم شيئاً مما يُقال، أترقب سؤاله بخوف وتوجس، وكأني "الأطرش في الزفّة"، كما يقول المثل الشعبي.

لكنّ الله سلّم؛ إذ انتهت المحاضرة دون أن يلتفت إلي، فغادرت القاعة كمن نجا من الغرق، وتوجّهت على الفور إلى عمادة الكلية، أطلب تغيير تخصّصي إلى الفيزياء؛ هروباً من ذلك الموقف المخزي، ومن علم الأحياء الدقيقة وكل ما يمتّ إليه بصلة.

وقد يسألني أحدهم: ما دمتَ لا تحب علم الأحياء، فلماذا قبلت المنحة في الأصل؟

وأجيب: كان قبولي في تخصّص الميكروبيولوجي بدافع الحصول على منحة دراسية ممولة من الدولة، ولم يكن عن قناعة أو شغف بالتخصّص نفسه، رغم انجذابي للعلوم عموماً.

ثم قد يُطرح سؤال آخر: لماذا الفيزياء بالتحديد؟ ألا تراها مادة صعبة مليئة بالرموز والمعادلات المعقدة؟ أليست هي "بُعبع" طلاب هذا الجيل؟

أعترف: أنا أحب الفيزياء.

نعم، هذا اعتراف صريح قد يُثير الاستغراب، خاصة في جيل يفر من الفيزياء كما يفر من الأسد! فهم يرونها مادة صعبة، مملوءة بالمعادلات والرموز والرياضيات الجافة، لكنهم لا يعرفون حقيقتها، لأنهم لم يدرسوها كما ينبغي.

الفيزياء، في رأيي، مادة خصبة وساحرة، تسبر أغوار الكون من الذرة إلى المجرة. وإن كان طلابنا اليوم ينفرون منها، فالمشكلة ليست في الفيزياء نفسها، بل في طريقة تدريسها.

منظومتنا التعليمية العربية، يُدرَّس العلم بأسلوب يعتمد على الحفظ والتلقين، أو ما نسميه "البصم"، وتُركّز الاختبارات على قياس الذاكرة

في منظومتنا التعليمية العربية، يُدرَّس العلم بأسلوب يعتمد على الحفظ والتلقين، أو ما نسميه "البَصَم"، وتُركّز الاختبارات على قياس الذاكرة أكثر من قياس الفهم والمهارة. بهذا الأسلوب، يتحوّل الطالب إلى آلة حفظ وتفريغ، لا علاقة له بروح المعرفة ولا يعيش جو المعلومة.

قد أجد للمدرّسين عذراً في الماضي، لكن في عصر الإنترنت والأفلام الوثائقية والتطبيقات التفاعلية، لم يعد ثمة مبررٌ لاستمرار الأسلوب العقيم نفسه، لا من المدرّس ولا من الطالب.

وللأسف، فإن طلاب اليوم باتوا يرغبون في المعلومة "جاهزة ومُقشرة"، ليبتلعوها ثم يتقيّأوها على ورقة الامتحان. لسان حالهم: "يا حبذا لو تدرّسوننا ما سيأتي في الاختبار فقط". وهذا ليس تعليماً، بل عملية "شحن وتفريغ"، فلا تترك المعلومة أثراً في عقل الطالب أو حياته أو مجتمعه.

فلنعد إلى الفيزياء.

الفيزياء من العلوم التي تتعامل مع أعمق الأسئلة حول الكون، وتعبّر عن قضاياها بلغة العلوم: الرياضيات.

وهنا تكمن المشكلة!. طلابنا ضعفاء في الرياضيات، ولأن الرياضيات لغة الفيزياء، فإن ضعفهم فيها يُترجم مباشرة إلى نفور من الفيزياء.

الرياضيات علم مجرد، رموزه لا معنى لها إلا عندما توضع في سياق فيزيائي أو علمي. فهي تتيح لنا التعبير الدقيق عن الظواهر الطبيعية.

سأضرب مثالاً: عندما نقول "السيارة واقفة"، فهي جملة فيزيائية، يمكن اختصارها بالرياضيات كالآتي:

ع = 0 (أو بالإنجليزية: v = 0)

حيث "ع" أو "v" ترمز للسرعة (velocity).

انظر كيف اختصرت الرياضيات جملة كاملة في رمز بسيط.

طلابنا لم يُعلّموا كيف تُستخدم الرياضيات لفهم الواقع، بل درسوها كقوانين للحفظ فقط، من دون معرفة خلفياتها أو كيفية اشتقاقها أو ربطها بالحياة

لكن طلابنا لم يُعلّموا كيف تُستخدم الرياضيات لفهم الواقع، بل درسوها كقوانين للحفظ فقط، من دون معرفة خلفياتها أو كيفية اشتقاقها أو ربطها بالحياة.

هنا نشأ "انفصام" واضح بين الطالب وبين الرياضيات، وصار يشعر وكأنه يقف أمام نقش أثري لا يفهم رموزه.

الفصل بين فيزياء المسألة ورياضياتها هو أحد أكبر الجرائم التربوية. فالرمز الرياضي هو التعبير المثالي عن واقع المسألة الفيزيائية.

ويتساءل طلابنا دائماً: "ما فائدة الرياضيات؟"

لو تعلّموا فيزياء الرياضيات لما طرحوا هذا السؤال!

يقول الفيزيائي بول ديفيز في كتابه الله والعقل والكون: "الرياضيات، بالنسبة لمَن هو خارجها، عالم غريب، مملوء بالرموز السحرية والإجراءات المعقّدة. لكن بالنسبة للعالِم، فهي ضامن الدقة والموضوعية، وهي لغة الطبيعة نفسها. ومن لا يفهم الرياضيات لا يمكنه فهم النظام الطبيعي المتأصل في نسيج الواقع الفيزيائي".

الفيزياء تمنحنا تصوّراً عميقاً للعالم من حولنا، تصوراً أنتج لنا التكنولوجيا التي نستخدمها يومياً، من الهاتف المحمول إلى مركبات الفضاء.

اليوم، ومع التقدم في وسائل العرض والتعليم المرئي، لم تعد الفيزياء تلك المادة الجافة التي عهدناها. يمكن للبرامج الوثائقية أن تجعل مفاهيمها في متناول الجميع، بالصوت والصورة والتجريب الافتراضي.

لذلك، أحرص من خلال تدريسي لمادة الفيزياء العامة في الجامعة، أن أقدّم الصورة الحقيقية لهذا العلم، كما فهمته وأحببته، لا كما يُقدّم في المناهج الجامدة التي تصنع رهبة لا مبرّر لها.

ولو بقيتُ في قسم الميكروبيولوجي، لما تطورت ميولي العلمية كما هي عليه الآن. تلك الحادثة البسيطة في أول يوم دراسي كانت منعطفاً في حياتي.

لذا، تذكّروا دوماً: حبّ التخصص هو بداية الإبداع. فحيثما كان الشغف والرغبة والاهتمام، يكون الإنجاز، وتولد القفزات الكبرى في العلم والحياة.

Related News

( Yemeni Windows) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

All rights reserved 2025 © Yemeni Windows