احتمال وقف النار في غزة لا يغيّر الأهداف الإسرائيلية
Arab
5 days ago
share

مع زيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إلى البيت الأبيض، وهي الثالثة له إلى العاصمة الأميركية منذ انتخاب دونالد ترامب رئيساً لولاية ثانية وتنصيبه في 21 يناير/كانون الثاني الماضي، تشير تصرفات الحكومة الإسرائيلية ونتنياهو شخصياً، إلى أن الظروف باتت ناضجة من الجانب الإسرائيلي للتقدّم نحو اتفاق وقف النار في غزة وتبادل الأسرى والمحتجزين مع حركة حماس، وربما لإنهاء حرب الإبادة في القطاع بصيغتها الحالية.

إلا أن هذا التقدّم لا يضمن وقفاً نهائياً للحرب، إذ من المحتمل أن تستمر العمليات العسكرية بأدوات أقل حدّة ووتيرة أبطأ. كما أن ما نُشر حتى الآن من تفاصيل حول الاتفاق المحتمل، لا يوضح مصير قطاع غزة، ولا مَن سيتولى إدارة الحياة فيه بعد وقف النار في غزة. علاوة على ذلك، فإن التوصّل إلى اتفاق محتمل مع "حماس" لا يعني بالضرورة إغلاق جبهة الضفة الغربية، كما لا يضمن تغيّر سياسات الإخراس والملاحقة السياسية تجاه الفلسطينيين داخل إسرائيل.

ما بعد اتفاق وقف النار في غزة

من المرجّح أن نتنياهو لن يسارع هذه المرة إلى إفشال التوصل لاتفاق وقف النار في غزة أو الانسحاب منه فور بدء تنفيذ بنوده وبدء عملية التبادل، كما حدث في الاتفاق السابق مع "حماس"، رغم استمرار وجود العديد من النقاط العالقة بين الجانبين حتى الآن. بدلاً من ذلك، من المتوقّع أن تتجه إسرائيل إلى مواصلة الحرب على غزة ولكن بأدوات أقل حدّة، وبنطاق أضيق، ووحشية أقل، حتى لو أعلن ترامب وقف النار في غزة وأن الحرب قد توقّفت أو انتهت بالكامل.

من المحتمل أن تستمر العمليات العسكرية في غزة بأدوات أقل حدّة ووتيرة أبطأ

من المرجح أن يُشبه واقع قطاع غزة ما حدث في لبنان بعد اتفاق وقف إطلاق النار، أو الوضع الراهن في الضفة الغربية، حيث ستستمر إسرائيل في شنّ غارات جوية، واجتياحات برّية، وعمليات اغتيال وقتل، تحت ذريعة منع تعاظم التهديدات الأمنية المستقبلية. وستعمل إسرائيل بعد وقف النار في غزة على استمرار فرض سيطرتها وادارتها لحياة الناس اليومية في كافة تفاصيلها، والتحكم بآليات إدخال المساعدات الإنسانية لغزة ووتيرته وحجمه.

كذلك، ستعمل إسرائيل بعد وقف النار في غزة على تعطيل أي إمكانية لإعادة ترميم النظام والإدارة المدنية في القطاع، سواء عبر حركة حماس أو من خلال أي طرف آخر. ستسعى إسرائيل إلى توسيع نموذج مجموعة (ياسر) أبو شباب، بما هي أجسام بديلة أو منافسة لـ"حماس"، بهدف إضعاف سيطرة الحركة وزعزعة تماسكها الداخلي. ويعكس ذلك رغبة إسرائيل في إبقاء غزة بحالة من التفكك المؤسسي والفراغ السياسي الذي تتحكم فيه بشكل غير مباشر.

من المؤشرات على هذا التوجه ما شهدته جلسة "الكابينت" الإسرائيلي (المجلس الوزراء المصغر) الأسبوع الماضي من نقاشات حادة وخلافات بين عدد من الوزراء، بمن فيهم رئيس الوزراء نفسه، ورئيس أركان الجيش الإسرائيلي إيال زامير. إذ تطالب الحكومة بتوسيع عمليات تهجير السكّان الفلسطينيين وتجميعهم في مناطق محددة في جنوب قطاع غزة، حيث يسعى نتنياهو إلى نقل كافة سكّان غزة إلى تلك المناطق. وبهذا، يُعاد تشكيل واقع القطاع سجنا مفتوحا من الخيام، تتحكم إسرائيل بكامل مفاصله، بما في ذلك سبل العيش، والمساعدات الإنسانية، وحركة السكّان، ما يُكرّس وضعاً من السيطرة الشاملة والإدارة غير المباشرة تحت غطاء "الترتيبات الإنسانية".

ترغب إسرائيل في إبقاء غزة بحالة من التفكك المؤسسي والفراغ السياسي الذي تتحكم فيه بشكل غير مباشر

الضفة الغربية في "اليوم التالي"

في أعقاب السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، وسّعت إسرائيل نطاق عملياتها العسكرية في الضفة الغربية تحت ذريعة منع تكرار سيناريو مشابه لأحداث 7 أكتوبر، أو نشوء تهديدات أمنية من داخل مناطق الضفة. وتركزت هذه العمليات بشكل خاص في شمال الضفة، ولا سيما في مخيمات اللاجئين في مناطق جنين وطولكرم وقلقيلية.

استغلّت إسرائيل السياق الأمني والسياسي الجديد لتنفيذ عمليات تدمير واسعة النطاق في هذه المخيمات. وتبدو هذه العمليات جزءاً من محاولة لإعادة هندسة الحيّز الجغرافي والديمغرافي بما يتماشى مع الاحتياجات الأمنية والعسكرية الإسرائيلية، وصولاً إلى تحويل المخيمات الفلسطينية إلى مناطق غير قابلة للحياة.

بالتوازي مع العمليات العسكرية التي تشنّها إسرائيل في الضفة الغربية، صعّدت مجموعات المستوطنين من هجماتها الإرهابية المنظمة ضد القرى والبلدات الفلسطينية. وقد شملت هذه الهجمات اعتداءات على بلدات فلسطينية تقع في محيط مستوطنات أو بؤر استيطانية، وأسفرت عن مقتل عدد من الفلسطينيين وإصابتهم، إلى جانب محاولات متكررة للاستيلاء على أراضٍ فلسطينية، وتهجير سكّانها قسراً، وإحراق محاصيل وأشجار زراعية. هذه ليست أعمال عنف عشوائية أو معزولة، بل تمثل "أدوات ميدانية" ضمن استراتيجية تهدف إلى تعميق السيطرة الإسرائيلية، وتوسيع المشروع الاستيطاني على حساب الوجود الفلسطيني.

إرهاب المستوطنين يكمل على أرض الواقع ما تقوم به قوات الجيش الإسرائيلي، ويعفي المؤسسة الأمنية من المسؤولية المباشرة عن الجرائم التي يرتكبها المستوطنون، ويوفر مسافة لتمايز الجيش الإسرائيلي عن تلك الأحداث، ولو كانت تقع تحت ناظريه وحمايته في العديد من الحالات، وتأتي بتناسق تام مع الأهداف السياسية التي أعلنتها الحكومة الإسرائيلية بتغيير واقع الضفة الغربية وإلغاء أي إمكانية لإقامة دولة فلسطينية وتوسيع الاستيطان وتعزيزه.

الاتفاق المحتمل بين إسرائيل وحركة حماس بشأن وقف النار وتبادل الأسرى والمحتجزين، لا يتضمن أي إشارة، مباشرة أو ضمنية، إلى الوضع في الضفة الغربية. وهذا يعكس نجاحاً إسرائيلياً في تحقيق فصل فعلي بين مساري غزة والضفة. علاوة على ذلك، تمكنت إسرائيل من تحييد ملف الضفة الغربية، وعلى رأسه ملف الاستيطان، عن أي جهود إقليمية أو دولية لوقف الحرب على غزة.
من غير المرجح أن يُفضي التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار وتبادل الأسرى والمحتجزين في غزة إلى أي تحوّل في السياسات الإسرائيلية تجاه الضفة. بل على العكس، قد يشكّل هذا الاتفاق دافعاً إضافياً لتصعيد هذه السياسات، في إطار مسعى داخلي لـ"تعويض" أحزاب اليمين المتطرف ومكافأتها على عدم تفكيك الائتلاف الحكومي في حال التوصل إلى اتفاق، كما جرى في سياقات مشابهة في الماضي.

الداخل الفلسطيني: توسيع أدوات القمع

منذ أحداث 7 أكتوبر 2023، كثّفت إسرائيل من سياساتها الهادفة إلى إخراس المجتمع الفلسطيني في الداخل وترهيبه، عبر ملاحقات سياسية وتضييق منهجي على الحريات الجماعية والفردية. ومع استئناف الحرب على غزة في آذار/مارس الماضي، توسّعت هذه الإجراءات لتشمل أدوات قمع إضافية.

ومن الأمثلة على هذا التوجه، قرار وزير الأمن يسرائيل كاتس حظر نشاط "لجنة إفشاء السلام القطرية" وفروعها في مختلف البلدات العربية. وقد رافق قرار الحظر حملة اعتقالات واقتحامات استهدفت منازل عدد من الناشطين في اللجنة، وعلى رأسهم رئيسها الشيخ رائد صلاح. تجدر الإشارة إلى أن هذه اللجنة، التي تنشط منذ عام 2021 تحت مظلة لجنة المتابعة العليا للجماهير العربية في الداخل، تهدف إلى مواجهة ظاهرة العنف والجريمة في المجتمع العربي، والبحث عن حلول جماعية واجتماعية لتفكيك بنيات العنف المتفشية.

وفي سابقة منذ عام 1998، منعت الشرطة الإسرائيلية في شهر مايو/أيار الماضي تنظيم "مسيرة العودة" السنوية التي دأبت على إقامتها جمعية الدفاع عن حقوق المهجّرين الفلسطينيين داخل إسرائيل، والتي تُنظَّم سنوياً بالتزامن مع "يوم الاستقلال" الإسرائيلي، تحت الشعار الرمزي "يوم استقلالهم، يوم نكبتنا".

قد يعكس الاتفاق المحتمل نجاحاً إسرائيلياً في تحقيق فصل فعلي بين مساري غزة والضفة

كما قامت الشرطة الإسرائيلية باعتقال صحافيين وفنانين، بتهم دعم منظمات إرهابية أو التماهي معها. على سبيل المثال، قامت الشرطة بتاريخ 25 فبراير/شباط 2025، باعتقال الصحافي سعيد حسنين في مدينة شفا عمرو (حيفا) وتقديمه للقضاء. وقد نسبت النيابة العامة مجموعة تهم ضد حسنين، منها "التواصل مع عميل أجنبي، وإبداء التضامن مع منظمة إرهابية".

إضافة إلى ذلك، لجأت المؤسسة الأمنية إلى توسيع استخدام أداة الاعتقال الإداري ضد المواطنين الفلسطينيين. وكان من أبرز هذه الحالات اعتقال القيادي السياسي في حركة "أبناء البلد"، رجا إغبارية، اعتقالاً إدارياً، في سابقة تُعدّ الأولى من نوعها منذ عقود بحق شخصية قيادية سياسية داخل الخط الأخضر.

وتصاعدت في الأشهر الأخيرة حملة تحريض مكثفة ضد النائب أيمن عودة، رئيس كتلة الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة، من قِبل أعضاء كنيست ووزراء في حكومة اليمين المتطرف، وصلت إلى حدّ المطالبة بإقصائه من الكنيست. تأتي هذه الحملة إثر تغريدة نشرها النائب عودة عبر منصة "إكس" عبّر فيها عن ترحيبه بصفقة التبادل التي جرت في 19 يناير 2025، والتي أسفرت عن تحرير أسرى فلسطينيين ومحتجزين إسرائيليين. وقد اعتُبرت هذه التغريدة في الأوساط السياسية والإعلامية الإسرائيلية بمثابة "مساواة" بين من تصفهم الدولة بـ"مخربين" فلسطينيين، وبين المخطوفين الإسرائيليين، وهو أمر مرفوض في الخطاب الإسرائيلي العام. كما استُخدمت مشاركة النائب عودة في تظاهرة ضد الحرب في حيفا، نهاية مايو الماضي، ذريعةً إضافية في الحملة ضده، حيث ألقى خلالها خطاباً ندّد فيه بالاحتلال الإسرائيلي، وبما وصفه بـ"حرب الإبادة والتطهير العرقي في غزة".

في نهاية حزيران/يونيو الماضي، صوّتت لجنة الكنيست، بأغلبية جميع ممثلي الأحزاب اليهودية ومعارضة أعضاء الكتل العربية فقط، على اقتراح إقصاء النائب عودة من عضوية الكنيست. ومن المقرر أن يُعرض القرار على الهيئة العامة للكنيست خلال شهر تموز/يوليو الحالي، ويتطلب إقراره دعم 90 عضو كنيست على الأقل، وفقاً للقانون الإسرائيلي.

تغيّر الأدوات... والأهداف على حالها

في ظل الظروف السياسية والعسكرية الراهنة، يبدو أن احتمال التوصل إلى اتفاق وقف النار في غزة وتبادل أسرى ومخطوفين بين إسرائيل وحركة حماس قد ارتفع بشكل ملحوظ. ومع ذلك، فإن هذا الاتفاق، في حال إنجازه، لا يُنبئ بانتهاء معاناة سكان قطاع غزة، ولا بعودة الأوضاع إلى ما كانت عليه قبل 7 أكتوبر 2023. بل من المرجّح أن تتواصل الحرب بأشكال وأدوات مختلفة، أقلّ حدّة وربما أقلّ وحشية، ولكنها تُكرّس الأهداف نفسها.

ستواصل إسرائيل سعيها لتحقيق ما يمكن وصفه بأهداف الحرب غير المُعلنة، ومن بينها تجميع سكان غزة في ما يشبه سجناً كبيراً من الخيام، تُدار فيه تفاصيل الحياة اليومية تحت سيطرة إسرائيلية صارمة، مع فرض قيود شديدة على الخدمات الصحية والتعليمية، وفرص العمل، ما قد يُمهّد، بصورة غير مباشرة، لعملية تهجير بطيئة وممنهجة.

في الضفة الغربية، ستستمر إسرائيل بسياسات التوسّع الاستيطاني، والاقتحامات العسكرية، وتدمير مخيمات اللاجئين، لا سيما في شمال الضفة، إلى جانب دعم مباشر وغير مباشر لعصابات المستوطنين في تنفيذ اعتداءاتهم على الفلسطينيين. كل ذلك يصبّ في اتجاه تعزيز السيطرة الجغرافية والديموغرافية الإسرائيلية، وتفكيك النسيج الفلسطيني.

بالتوازي، تمضي المؤسسة الإسرائيلية في توسيع سياسات الإخراس والملاحقة السياسية ضد المواطنين الفلسطينيين في الداخل، بهدف إعادة تعريف شروط العمل السياسي المشروع وحدوده، وإفراغه من مضمونه القومي الجماعي، لصالح خطاب يركّز على المطالب المعيشية والفردية فقط.    

Related News

( Yemeni Windows) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

All rights reserved 2025 © Yemeni Windows