
في لحظة الحصار والإبادة الاستعمارية، يصبح الشعر وثيقة وجود. من هذا المنظور، يأتي كتاب "في الشعر الفلسطيني: من الثورة إلى الحرب (إبراهيم طوقان، أبو سلمى، محمود درويش، شعر الضفة والقطاع)" للشاعر الفلسطيني المتوكل طه، الصادر حديثاً عن دار الشروق للنشر والتوزيع في الأردن وفلسطين. يقع الكتاب في 160 صفحة، ويقدّم قراءة معمّقة لمسيرة الشعر الفلسطيني منذ بداياته الأولى مع الثورات في أوائل القرن العشرين.
لا يقدّم الكتاب سرداً تاريخياً، بل يحكي قصة الشعر الفلسطيني، ويبدأ بمحطّة أولى لا يمكن تجاوزها: إبراهيم طوقان، الذي يعتبره المؤلّف الأب الروحي للشعر الفلسطيني الحديث، وواحداً ممن أسّسوا القصيدة المقاومة بصيغتها الترابية. يركّز الكتاب على قصيدته الشهيرة "الثلاثاء الحمراء"، التي رثى فيها الشهداء الثلاثة الذين أعدمتهم سلطات الانتداب البريطاني: محمد جمجوم وعطا الزير وفؤاد حجازي، عام 1930.
ثم ينتقل طه إلى عبد الكريم الكرمي (أبو سلمى)، في قراءات تسلط الضوء على المفاهيم الثورية التي طبعت قصائده قبل النكبة. ويوضح أن أبو سلمى كتب الثورة قبل أن تتفجّر، واشتغل على تأصيل خطابها الشامل شعرياً، بلغة تعبّر عن رؤية عميقة للواقع والتاريخ معاً.
أما القسم الثالث، فيقدّم قراءة جديدة في شعر محمود درويش، لا من باب رمزيته الوطنية أو شهرته الكونية، بل من خلال علاقته المعقدة بمفاهيم مثل: السلام، والتعايش، وأوهام الحلول. يضيء المتوكل طه على مواقف درويش السياسية كما تتبدّى في دواوينه، ويعيد قراءة نصوصه بمنهجية تمزج بين النقد الشعري والتحليل السياسي.
يركّز الكتاب على القصيدة الفلسطينية داخل الأرض المحتلة – الضفة والقطاع – من حيث فرادتها وضرورتها. فالقصيدة هنا لم تكن مجرّد فن، بل شكلاً من أشكال الصمود. ويرى المتوكل طه أن الشعر الفلسطيني ليس تياراً واحداً ولا تجربة موحّدة، بل مشهد مركّب تعددت فيه المرجعيات وتنوّعت الخلفيات. الشتات شكّل جزءاً من هذا التنوّع، كما فعلت الانتماءات السياسية والأيديولوجية. وبينما سلك الشعر في الخارج دروب التجريب والانفتاح الجمالي، بقي الشعر في الداخل يكتب بطريقة مختلفة ويصارع بأسلوبه الخاص ليبقى ويشهد.
كذلك يقف الكتاب عند نكسة عام 1967، حيث ولدت القصيدة الفلسطينية في الأرض المحتلة كقصيدة جماعية بامتياز، مشبعة بروح الجماعة والمكان والتحريض. ومع التحولات التي أعقبت عام 1992، وما صاحبها من تغيّر في المفاهيم والمصطلحات والمزاج الجمعي، دخلت القصيدة في الداخل الفلسطيني مرحلة جديدة، واجهت فيها تحديات ثقافية واجتماعية مختلفة، واضطر الشعراء إلى إعادة التفكير في علاقتهم بالسلطة، وبالآخر، وبالعالم، والسعي لإنتاج لغة وأفق يعيدان للتجربة الشعرية توازنها. أما بعد العدوان الإبادي على غزة، فيتوقّع الكتاب أن تخرج نصوص شعرية جديدة، معجونة بالدم والركام والخذلان، لكنها لا تخلو من العبقرية والتميّز، نصوص تستمد طاقتها من المأساة وتعيد تشكيل الواقع شعرياً، بحدّةٍ ومفارقات قد تجعلها من أبرز ما يُكتب في أدب المقاومة المعاصر
المتوكل طه شاعر وكاتب فلسطيني من مواليد قلقيلية عام 1958، حاصل على الدكتوراه في الآداب. أصدر نحو ستين كتاباً في الشعر والسرد والنقد والفكر، وتُرجمت أعماله إلى عدة لغات. عمل محاضراً وسفيراً وانتُخب أميناً عامّاً لاتحاد الكتّاب والأدباء الفلسطينيين، وكان رئيس تحرير "المنصة الثقافية"، وعضواً في مجالس أمناء عدة مؤسسات ثقافية وأكاديمية.
