
مع اقتراب موعد انتهاء مهلة تجميد الرسوم الجمركية التي حددها الرئيس الأميركي دونالد ترامب في التاسع من يوليو/تموز 2025، يعيش الاقتصاد العالمي حالة من الترقب المشوب بالحذر. وبينما يواصل ترامب التلويح بإعادة تفعيل رسوم جمركية شاملة على واردات تتجاوز قيمتها 1.8 تريليون دولار، تتسابق العواصم العالمية، من بكين إلى بروكسل، لعقد صفقات تجارية سريعة مع واشنطن في محاولة لتجنب الدخول في حرب تجارية جديدة قد تفوق آثارها ما جرى في 2018.
وكانت الأسواق قد شهدت اضطرابات حادة في أعقاب إعلان ترامب فرض رسوم جمركية أساسية بنسبة 10% بالإضافة إلى زيادات أخرى على معظم الدول، بعضها يصل إلى 50%، قبل أن تهدأ نسبيا بعد إعلان البيت الأبيض في التاسع من إبريل/نيسان عن تجميد تنفيذ الرسوم لمدة 90 يوما لإتاحة المزيد من الوقت للمفاوضات لإبرام اتفاقات، وهو ما اعتبره مراقبون محاولة لامتصاص الصدمة من دون تقديم تنازلات سياسية. ووفقا لوكالة "بلومبيرغ"، صعد مؤشر S&P 500 بنسبة 7.2% خلال شهرين بعد تجميد القرار، فيما عادت ثقة المستثمرين إلى التحسن.
ما وراء التجميد الجمركي؟
قرار ترامب تجميد الرسوم الجمركية لمدة 90 يوما لم يكن، بحسب محللين، خطوة للتراجع، بل أداة ضغط مؤقتة تهدف إلى كسب الوقت وتوسيع هامش التفاوض. ويشير تقرير لمكتب الميزانية في الكونغرس الأميركي (CBO)، إلى أن الخطة جاءت بالتزامن مع إطلاق "مشروع ترامب الكبير للتحفيز المالي"، والذي يضخ نحو 480 مليار دولار على مدى عامين، ما ساهم في استيعاب الأثر المتوقع للرسوم على الناتج المحلي الإجمالي. كما كشف تقرير لـ"وول ستريت جورنال" في 20 يونيو/حزيران أن كبرى الشركات الأميركية سرّعت خلال شهري مارس/آذار وإبريل/نيسان وتيرة الاستيراد وتخزين السلع لتفادي الرسوم المرتقبة، ما أدى إلى ارتفاع الواردات بنسبة 12.4%، بحسب بيانات الجمارك الأميركية.
وبحسب مسح أجراه موقع "العربي الجديد"، أجمع محللون في تصريحات متفرقة لوسائل إعلام أميركية على أن قرار التجميد الجمركي لم يكن تراجعا عن المواجهة، بل مناورة مركبة تمنح البيت الأبيض ثلاث أوراق تفاوضية في آن واحد:
- الورقة الأولى كانت طمأنة الأسواق المالية دون كلفة سياسية أمام الداخل الأميركي، حيث تعافت مؤشرات وول ستريت بعد إعلان التجميد، وصعد مؤشر S&P 500 بنسبة 7.2% خلال شهرين.
- أما الورقة الثانية فتتمثل في منح الشركات الأميركية وقتا لإعادة ترتيب أولوياتها التجارية، وهو ما تؤكده بيانات الجمارك الأميركية التي أظهرت ارتفاعا في الواردات بنسبة 12.4% خلال مارس - إبريل في محاولة استباقية للتخزين.
- وهدفت الورقة الثالثة إلى تحويل التهديد الجمركي إلى أداة ضغط في المفاوضات الثنائية؛ فقد أعلنت كل من اليابان وألمانيا، خلال يونيو/حزيران، عن نوايا لإعادة التفاوض على ترتيباتها التجارية مع الولايات المتحدة تفاديا لإدراجها ضمن لائحة الرسوم.
سباق لتجنب التصعيد
بالتوازي مع ذلك، سارعت عدة دول إلى الدخول في مفاوضات ثنائية مع واشنطن. ففي منتصف يونيو/حزيران، أعلنت وزارة التجارة الهندية التوصل إلى إطار تفاهم جديد مع الولايات المتحدة يشمل تخفيضات متبادلة في الرسوم على منتجات التكنولوجيا والأدوية، وفق ما نشرته صحيفة "هندوستان تايمز". وعرضت الصين في الأسبوع الأخير من يونيو/حزيران، بحسب وكالة "شينخوا"، حزمة جديدة لتيسير الاستثمار الأميركي في مناطق التجارة الحرة، في إجراء وقائي لتجنب تصعيد مباشر. أما الاتحاد الأوروبي، فقد دخل في مشاورات سريعة لإعادة هيكلة اتفاق الشراكة الصناعية، وسط مخاوف من إدراج صادرات السيارات الألمانية ضمن قائمة الرسوم، وفقا لتقرير نشرته صحيفة "فاينانشال تايمز".
وأمس الأحد، قال وزير الخزانة الأميركي سكوت بيسنت إن الولايات المتحدة تقترب من التوصل إلى عدد من الاتفاقات التجارية قبل موعد التاسع من يوليو/ تموز الجاري الذي يبدأ فيه سريان رسوم جمركية مرتفعة، متوقعا صدور عدة إعلانات كبيرة في الأيام المقبلة. وأضاف بيسنت متحدثاً لشبكة "سي.أن.أن" أن إدارة ترامب ستبعث أيضا برسائل إلى 100 دولة لا تربطها علاقات تجارية كبيرة بالولايات المتحدة لإخطارها بأنها ستواجه رسوما جمركية أعلى تحددت في بادئ الأمر في الثاني من إبريل/ نيسان قبل تعليقها حتى التاسع من يوليو/ تموز.
وأضاف بيسنت: "سيوجه الرئيس ترامب رسائل إلى بعض شركائنا التجاريين يقول فيها: إذا لم تحركوا الأمور، فسنعود في أول أغسطس إلى مستوى الرسوم الجمركية التي تحددت لكم في الثاني من إبريل. لذا أعتقد أننا سنشهد سريعا جدا (إبرام) الكثير من الاتفاقات". ونفى وزير الخزانة الأميركي، بحسب رويترز، أن يكون الأول من أغسطس/ آب بمثابة مهلة نهائية جديدة للمفاوضات، وقال: "نحن نعلن أن هذا هو موعد التنفيذ. إذا أردتم تسريع وتيرة التفاوض فالأمر متروك لكم. وإذا فضلتم العودة إلى مستوى الرسوم السابق، فهذا خياركم".
ومن جانبه، منح رئيس المجلس الاقتصادي الوطني بالبيت الأبيض كيفن هاسيت، في مقابلة على قناة "سي.بي.إس"، الدول المنخرطة في مفاوضات جادة بعض المساحة للتفاوض. وقال هاسيت "هناك مواعيد نهائية، وهناك أمور قريبة، وبالتالي ربما تتأخر أمور عن الموعد النهائي"، مضيفا أن ترامب سيقرر ما إذا كان ذلك ممكنا. وقال هاسيت إن الاتفاقين الإطاريين اللذين أبرما بالفعل مع بريطانيا وفيتنام يمكن أن يكونا دليلا للدول الأخرى التي تسعى إلى إبرام مثل هذه الاتفاقيات مع واشنطن. وأضاف أن ضغوط ترامب تدفع العديد من الدول إلى نقل إنتاجها إلى الولايات المتحدة. ووصف رئيس مجلس المستشارين الاقتصاديين للبيت الأبيض ستيفن ميران الاتفاقية مع فيتنام بأنها "رائعة".
تهديد "مبطن"
وقال ميران، في برنامج "هذا الأسبوع" على قناة "إيه.بي.سي نيوز"، إن على الدول تقديم تنازلات من أجل خفض الرسوم الجمركية عليها. وأضاف "أسمع أخبارا إيجابية عن المحادثات مع أوروبا، وأسمع أخبارا إيجابية عن المحادثات مع الهند... وبالتالي أتوقع... إلغاء المواعيد المحددة لعدد من الدول التي هي بصدد تقديم هذه التنازلات".
وفي تصريحات سابقة، قال وزير الخزانة الأميركي إن إدارة ترامب تركز على 18 شريكا تجاريا مهما يمثلون 95% من العجز التجاري الأميركي، لكنه أشار إلى وجود "مماطلة كبيرة" من الدول في التوصل إلى اتفاق تجاري نهائي، وامتنع عن ذكر أسماء الدول التي باتت قريبة من التوصل إلى اتفاق قائلا "لأنني لا أريد أن أُسدي لهم معروفا". ودأب ترامب على قول إن الهند على وشك توقيع اتفاق، وعبّر عن أمله في التوصل إلى اتفاق مع الاتحاد الأوروبي، في حين شكك في إمكانية إبرامه مع اليابان.
ومن جانبه، قال وزير المالية التايلاندي بيتشاي تشونهافاجيرا لـ"بلومبيرغ"، أمس الأحد، إن تايلاند تبذل جهودا لتجنب فرض رسوم جمركية بنسبة 36% عن طريق إتاحة وصول أكبر للسلع الزراعية والصناعية الأميركية إلى الأسواق وزيادة المشتريات من الطاقة الأميركية وطائرات البوينغ. وذكرت قناة "سي.إن.بي.سي-تي.في 18" الإخبارية الهندية، أمس الأحد، أن الهند والولايات المتحدة ستتخذان على الأرجح قرارا نهائيا خلال يوم أو يومين بشأن اتفاقية تجارية مصغرة سيبلغ فيها متوسط الرسوم الجمركية على السلع الهندية المُصدرة إلى الولايات المتحدة عشرة بالمئة.
وذكر ترامب في صباح يوم الجمعة أن الرسوم الجمركية ربما تصل إلى 70% إذا لم تقدم الدول تنازلات، لكنه لم يدل بأي تفاصيل. وردا على سؤال بشأن الرسوم البالغة 70%، أشار بيسنت إلى القائمة الصادرة في الثاني من إبريل/ نيسان والتي لم تتضمن رسوما مرتفعة إلى هذا الحد.
كيف تفاعلت الأسواق مع معارك ترامب التجارية؟
بعكس ما حدث في 2018، عندما فرض ترامب رسوما مماثلة على واردات صينية بقيمة 200 مليار دولار، وأدت إلى موجة بيع حادة في الأسواق، بدا رد فعل الأسواق في 2025 أكثر توازنا. فقد نقلت شبكة "CNBC" عن تحليل لمصرف "غولدمان ساكس" أن 68% من المستثمرين يعتبرون تهديدات ترامب الجمركية "تكتيكا تفاوضيا أكثر منها سياسة نهائية"، وهو ما انعكس على استمرار تدفق الاستثمارات الأجنبية إلى السوق الأميركي بنسبة نمو بلغت 6.3% في الربع الثاني من هذا العام، بحسب مكتب التحليل الاقتصادي الأميركي (BEA). وتعزز هذا الاتجاه مع ارتفاع مؤشر ثقة الشركات الصغيرة الصادر عن الاتحاد الوطني للأعمال المستقلة (NFIB)، إلى 98.1 نقطة في يونيو/حزيران، مقارنة بـ95.4 في إبريل/نيسان.
ورغم أن معدل الرسوم الفعلي ارتفع إلى 12%، وهو الأعلى منذ تسعين عاما، كما أشارت مؤسسة "تاكس فاونديشن"، فإن أثره على الأسعار الاستهلاكية ظل محدودا حتى الآن. وأظهرت دراسة أجراها ألبيرتو كافالو، أستاذ الاقتصاد في كلية هارفارد لإدارة الأعمال، ونُشرت في يونيو/حزيران، أن متوسط زيادة أسعار التجزئة للسلع الخاضعة للرسوم لم يتجاوز 2.1%، ما يعني أن الشركات الأميركية هي التي تتحمل الكلفة في المرحلة الراهنة بدلا من تمريرها إلى المستهلكين. لكن هذا النمط، وفقا لتقرير لوكالة "رويترز"، لا يمكن استدامته طويلا. فقد بدأت شركات كبرى، مثل "وول مارت"، و"تارغت"، بالإشارة إلى إمكانية رفع الأسعار بدءا من الربع الثالث في حال استمرار الغموض السياسي حول الرسوم الجمركية.
ذاكرة الأسواق
وتشير بيانات مكتب التحليل الاقتصادي الأميركي إلى أن سياسة الرسوم الجمركية في 2018 - 2019 ساهمت في تراجع معدل نمو الناتج المحلي من 2.9% إلى 2.1%، وانخفضت استثمارات الشركات بنسبة 2.4% في الربع الرابع من 2019، كما ارتفع التضخم بأكثر من 0.6 نقطة مئوية. وتوضح مؤسسة "بروكينغز" في دراسة سابقة أن ما يعرف بـ"المرحلة الأولى" من الاتفاق التجاري مع الصين، والذي وقع في يناير/كانون الثاني 2020، جاء بعد خسائر فادحة في سلاسل الإمداد وثقة الشركات. وبحسب تقرير نشرته "بلومبيرغ إيكونوميكس"، فإن الأسواق تتعامل مع أزمة 2025 بحذر محسوب، لأنها تتذكر جيدا "كيف تسببت الرسوم في موجة نزوح استثماري مفاجئة في 2018".
ومع اقتراب الموعد النهائي لانتهاء التجميد، يبقى السيناريو الأكثر ترجيحاً، وفقاً لمذكرة داخلية صادرة عن "غولدمان ساكس"، هو تمديد المهلة 30–45 يوماً، مع رفع سقف التهديدات للضغط على الاتحاد الأوروبي والصين. لكن في حال عودة الرسوم بكامل قوتها، فإن التقديرات تشير إلى أن الاقتصاد الأميركي قد يخسر ما بين 0.6 و0.8 نقطة مئوية من النمو في النصف الثاني من العام، فيما قد يرتفع معدل التضخم إلى أكثر من 3.4%، وهو ما قد يجبر الاحتياطي الفيدرالي على مراجعة سياساته النقدية مجددا، وفق تقرير نشرته "بلومبيرغ" في الثالث من يوليو/تموز الجاري. وتشير تجربة 2018 إلى أن السياسات التجارية المبنية على الرسوم لا تؤدي بالضرورة إلى انتصارات اقتصادية، بل إلى تباطؤات حادة في الاستثمار وخلل في سلاسل التوريد. أما في 2025، فإن سياسة "التجميد المرحلي" سمحت بامتصاص الصدمة مؤقتاً، لكنها عمقت حالة عدم اليقين التي باتت تؤثر على قرارات الشركات والمستهلكين على حد سواء.
ويبقى السؤال المطروح: هل سيحول ترامب تهديداته إلى سياسة فعلية كما فعل سابقاً، أم يكتفي باستخدام الرسوم ورقةَ ضغط انتخابية؟ الإجابة ستتضح خلال أيام.. أو ربما ترحل مجدداً إلى جولة جديدة من التجميد.

Related News

