
ظهرت في قطاع غزة بارقة أمل صغيرة من قلب الركام، وتحت سماء تئن من هدير الطائرات، أضاءها شباب قرروا ألا يقفوا مكتوفي الأيدي أمام ما يعيشه طلاب الجامعات والثانوية العامة من تحديات غير مسبوقة بسبب الحرب والنقص الحاد في الإمكانيات. هؤلاء الشباب، أطلقوا مبادرة "القصر" التطوعية والفريدة من نوعها، التي تهدف إلى توفير مساحة آمنة وهادئة للدراسة وتقديم الاختبارات، وسط الانقطاع الدائم للكهرباء، وغياب الإنترنت، وتردي الأوضاع النفسية والمعيشية.
المكان الذي اختاروه كان مساحة مخصصة للطلاب والطالبات شمالي مدينة غزة، وقد أعادوا تجهيزها بجهود ذاتية بسيطة لتهيئة المكان ليصبح مناسباً للتعليم ومتابعة الدروس إلكترونياً، بعد توفير خدمتي الإنترنت والكهرباء يومياً مجاناً، أو بمقابل رمزي لضمان استمرارية الخدمة.
ولا تقتصر المبادرة الشبابية على كونها مجرد مكان خاص بالدراسة، بل نوع من التمرد على الظروف القاسية التي فرضتها الحرب الإسرائيلية المتواصلة على القطاع منذ أكتوبر/ تشرين الأول 2023، وأن تلك الظروف ورغم قسوتها لن توقف سير الحياة، أو تعطل أحلام الشباب وطموحاتهم. وتستهدف المبادرة خاصة طلاب الثانوية والجامعات، الذين يخوضون امتحانات مصيرية، وممن يُطلب منهم تقديم أبحاث أو مشاريع رغم انقطاع الخدمات الأساسية، وقد وصل عدد المستفيدين إلى قرابة 500 مستفيد، يداومون في المكان بالتناوب وفقاً لحاجتهم وظروفهم.
ولا يمتلك الشباب القائمون على المبادرة تمويلاً خارجياً، سواء رسمياً أو مؤسساتياً لمواصلة العمل، بل يعتمدون على جهود فردية ورسوم رمزية بسيطة، وإمكانيات استعانوا بها من بيوتهم أو على حسابهم الخاص، لتوفير البطاريات أو مقابس الشحن أو لاقط إشارة الإنترنت أو غيرها من اللوازم الخاصة بالاستمرارية. وتخلق مساحة "القصر" أجواء هادئة تتيح للطلبة التركيز في دراستهم وامتحاناتهم، في الوقت الذي يتشارك فيه الجميع لتطوير الخدمات المقدمة، من خلال تبادل الاقتراحات والأفكار، والعمل كخلية نحل متكاملة الأدوار لضمان إنجاح الفكرة، وزيادة نسبة الاستفادة منها.
وتقول طالبة هندسة البرمجيات في جامعة فلسطين سجى طولان (20 عاما) النازحة من مدينة بيت حانون شمالي قطاع غزّة نحو مدينة غزة، إنّها لجأت للانضمام إلى مبادرة القصر جراء الضعف الشديد في الخدمات الأساسية اللازمة لمواصلة دراستها، إلى جانب الغلاء الشديد والمبالغ فيه بمختلف المتطلبات الدراسية، والتي تسببت في إعاقة مسيرة عشرات الآلاف من الطلبة. وتبيّن طولان لـ"العربي الجديد" أنّ المبادرة توفر للطلبة خدمتي الإنترنت والكهرباء مجاناً لوقت محدّد، حيث كانت تقدّم ثلاث ساعات يومياً، إلا أنّه ومع تدهور الأوضاع المعيشية والغلاء الشديد في الأسعار وتأثر جميع المرافق بالنقص والغلاء جرى تقليص الاستفادة المجانية لساعة واحدة يومياً، في ظل وعود بزيادة نسبة الاستفادة مع تحسن الأوضاع.
وتوضح طولان أنّ دراستها تتطلب المواظبة على فتح الحاسوب والاتصال بشبكة الإنترنت، وتقول "عندما نزحنا إلى جنوب القطاع في بداية الحرب تأثرت دراستي بفعل انقطاع الكهرباء والإنترنت وصعوبة المعيشة، وبعد عودتي إلى مدينة غزّة التحقت بمبادرة القصر، وبدأت بمتابعة دراستي (..) أغادر خيمتي صباحاً تحت أشعة الشمس الحارقة إيماناً بضرورة المواصلة". وتشير طولان إلى أنّ المبادرة لا تحصل سوى على شيكل واحد من الطالب وهي رسوم رمزية لا تُذكر مقارنة بالأماكن الأخرى، إلى جانب توفيرها مساحة هادئة تشجع على مواصلة الدراسة، مع مراعاة الظروف المعيشية الصعبة التي يمرّ بها جميع الطلبة وأسرهم.
تأتي مبادرة القصر في ظل الغلاء الجنوني بأسعار الكافيهات التي تتيح خدمات الإنترنت والكهرباء
من ناحيته، يبين طالب كلية الهندسة في الكلية الجامعية للعلوم التطبيقية النازح من منطقة الكرامة، عدي مصلح، أنّ الاحتلال الإسرائيلي ومنذ بداية العدوان تعمد قصف الجامعات والمراكز التعليمية ومحطات وشبكات الطاقة ومصادر الإنترنت، وهو ما أثر سلباً في تواصل العملية التعليمية. ويلفت مصلح لـ"العربي الجديد" إلى أنّه عانى لفترة طويلة جراء الانقطاع التام للكهرباء والإنترنت، وعدم توفر أماكن لشحن الأجهزة، وهي الخدمات المرتبطة بدراسته بشكل أساسي، وجاءت مبادرة القصر الفردية للتخفيف من الآثار الصعبة، وإتاحة المجال للطلبة لمواصلة دراستهم، عبر توفير مصادر الكهرباء والإنترنت الخاص بمتابعة المحاضرات والدروس.
ويوضح الطالب أنّه يستفيد من خدمات مبادرة القصر ثلاثة أيام في الأسبوع وثلاث ساعات من كل يوم، نظراً للعدد الكبير داخل المبادرة، وندرة المبادرات المُشابهة، وقد ساعدته المساحة على الاستمرار في دراسته الجامعية على الرغم من كل الظروف الصعبة التي فرضتها الحرب. وعن رحلته اليومية للمساحة، يقول مصلح إنّه ينتقل يومياً من خيمته في منطقة الرمال وسط مدينة غزة، إلى المساحة مشياً على الأقدام، مضيفاً "نحن في تحد مستمر، إلا أننا مصرّون على المواظبة أملاً في غد أفضل".
مبادرة القصر فكرة وليدة الحرب على غزة
في هذه الأثناء، يوضح صاحب فكرة مبادرة القصر، محمد الشريف، أن فكرة تأسيس المساحة الخاصة بالطلبة بدأت منذ اللحظة الأولى لعودة النازحين من المحافظات الوسطى والجنوبية نحو محافظات الشمال، حيث جرى استئجار صالة كانت مخصصة للمناسبات الاجتماعية وإتاحتها لخدمة الطلبة بمقابل رمزي للغاية لتغطية التكاليف التشغيلية. ويبين الشريف أن المساحة استقطبت عدداً كبيراً من الطلبة، وقد اجتمعوا على حاجة الإنترنت والكهرباء، وهي خدمات مفقودة في قطاع غزّة نظراً لتواصل الحرب، ويقول "كانت الفكرة الأولى تقتصر على استهداف 50 إلى 60 طالباً، إلا أن الحاجة الجماعية لتلك الخدمات ضاعفت العدد". ومع مرور الأسابيع الأولى تزايد عدد الطلاب ليصل إلى قرابة 300 طالب وطالبة وفق توضيح الشريف، الذي قام بالتواصل مع شركة الاتصالات لتوفير إنترنت أقوى وقد قوبل طلبه بالرفض، ما دفعه إلى شراء الكوابل وتمديد خط فايبر على حسابه الخاص، وهو ما ساهم بتوسيع فكرة المساحة بعد مرور الشهر الثالث والتي باتت تستقبل نحو 500 مستفيد.
وتأتي مبادرة القصر في ظل الغلاء الجنوني في أسعار الكافيهات التي تتيح خدمات الإنترنت والكهرباء، وهي تكلفة مرتفعة لا يمكن للطلبة وذويهم تحملّها في ظل الظروف المعيشية والاقتصادية الصعبة التي يمر بها الجميع، خاصة في ظل فقدان فرص العمل ومصادر الدخل، الأمر الذي يعني أن القصر "طوق نجاة للطلبة في ظل النقص والغلاء".
ومع تصاعد وتيرة العدوان، وإغلاق الأبواب في وجه الحياة، يبقى هذا الركن شاهداً على إرادة لا تقهر، وإيمان عميق بأن العلم هو طريق النجاة، حتى في أقسى الظروف، بينما يحمل الشباب رسالة إلى العالم بأنّ شعب غزّة، ورغم كل شيء، لا يزال يؤمن بالمستقبل.

Related News

