نحن، أمّهات أطفال التوحّد، لا نقف في نهاية العام الدراسي أمام منصة التتويج ولا نحمل شهادة تقدير بأسماء أبنائنا. لا نصعد لالتقاط صورة جماعية في باحات المدارس. بل نحصل على "تقييم". كلمة باردة في ظاهرها، لكنها، لنا، تختزن ما لا تحمله كل شهادات العالم: نبض المعركة.
هذا العام، حين استلمت تقييم سام، شعرت بشيء يشبه النصر. لم تكن الأرقام مرتفعة، ولا الكلمات مصقولة، لكن أحد المعالجين كتب: "سام كان إلهاماً لنا جميعاً بابتسامته، بتفاعله، بحبّه للآخرين. رغم غيابه عن اللغة، إلا أنه كان دائماً يجد وسيلة ليُوصل مشاعره.. وإن لم تكن أفكاره".
توقفت عند هذه الجملة. فكرت، وتأملت. نحن نعيش في عالم يؤمن بأن الكلمة تصنع المعنى، لكن سام – ابني – كسر هذه القاعدة. لم يتحدث، لكنه قال كل شيء. لم يشرح، لكنه أوصل الحب والخوف والفرح. كانت ابتسامته هي حضوره، وكان حضوره يكفي.
سام لم يُعلّمني كيف أكون أماً فقط، بل علّمني كيف أكون إنسانة. كيف نحب دون كلمات، ونردّ على الأذى بالصمت
في العام الماضي، قُدّم لي تقييم آخر: سام غير قادر على الدمج في صف داخل مدرسة، عليه البقاء في مركز التوحد. لا أذكر كيف تنفّست بعد قراءة تلك الجملة. شيء ما انكسر داخلي، شعرت بأن العالم أُغلق في وجهي وبأنني أُمّ فشلت في امتحانها الأول.
لكن الآن، وأنا أقرأ توصية هذا العام: "يُوصى بالدمج الكلي"، لا أشعر بنشوة الانتصار كما توقعت. بل بشيء أعمق، يشبه التصالح. لم أعد ألهث خلف "الدمج"، لأن سام، أصلاً، لا يحتاج أن يندمج مع عالم لم يصنعه على مقاسه. العالم هو من عليه أن يتعلّم لغته.
سام، ابني، الطفل الملهم، هو من أعاد تكويني. علّمني أن الحب لا يحتاج تبريراً، وأن العائلة لا تُقاس بعدد المهنئين ولا بهدايا المناسبات، بل بمن يبقون رغم الصمت الطويل.
معه، تعلّمت أن الأقارب قد يهربون، وأنهم خبراء في اختلاق الأعذار. وتعلّمت، أيضاً، أن مَن أراد البقاء، سيخلق ألف طريقة ليفعل ذلك.
سام لم يُعلّمني كيف أكون أماً فقط، بل علّمني كيف أكون إنسانة. كيف نحب دون كلمات، ونردّ على الأذى بالصمت، وننقّي دواخلنا لنحتمل قسوة الحياة بابتسامة.
علّمني كيف نستمتع بالتفاصيل: قطعة شوكولا تُخفي ضحكة، لعبة صغيرة تُعيدنا أطفالاً، لمسة خفيفة تُعيد الأمان. علّمني أن الحياة ليست سباقاً، بل لحظة، ضحكة، نظرة.
أنا فخورة بك، يا سام، فخورة حتى التلعثم.
أنت لم تأتِ لتكون شبيهاً بالآخرين.
أنت أتيت لتذكّرنا أن الجوهر لا يُقال، بل يُعاش.
شكراً لأنك اخترتني.
شكراً لأنك صنعت لي عائلة معيارها الوحيد: الحب.
Related News

