
جدد رئيس الوزراء الإثيوبي أبي أحمد في تصريحات، أمام البرلمان الإثيوبي الخميس الماضي، تأكيده أن بلاده تسعى للحصول على منفذ بحري عبر الوسائل السلمية فقط، مشدداً على أهمية التعاون الإقليمي ومبدأ المنفعة المتبادلة، ومؤكداً في الوقت نفسه رفضه القاطع لأي احتمال لنشوب صراع مع إريتريا، وهو ما يعكس توجهاً دبلوماسياً حذراً في التعامل مع الملفات الشائكة في المنطقة.
التصريحات الأخيرة تحمل رسائل متعددة تتجاوز مجرد تأكيد الموقف الرسمي، إلى رسم ملامح استراتيجية إثيوبية جديدة في التعامل مع ملف المنفذ البحري والعلاقات مع الجوار، خصوصاً مع إريتريا والصومال. وتعد إثيوبيا دولة حبيسة منذ استقلال إريتريا في عام 1993، وسعت للحصول على منفذ بحري في إطار حاجاتها الاقتصادية والأمنية. لكن تصريحات أبي أحمد تأتي في إطار السعي للتأكيد أن هذه المساعي لا تتعلق بالتهديد أو القوة، بل بالسلام والتعاون. "رغبتنا هي زرع بذور الخير. نريد الوصول إلى البحر على أساس مبدأ المنفعة المتبادلة، وليس بالقوة"، هكذا وصف أبي أحمد هدف بلاده في سياق علاقاتها بدول الجوار.
زاهد زيدان: تصريحات أبي أحمد عكست تحوّلاً بعقلية القيادة الإثيوبية من منطق الحلول بالقوة إلى التفاوض
وشدد أبي أحمد أيضاً على أن بلاده لا تسعى لفرض إرادتها على أحد، بل تحترم سيادة الدول المجاورة وحقها في اتخاذ قراراتها بحرية تامة. ورغم تمسك إثيوبيا بمبدأ السلام، أكد أبي أحمد قدرة بلاده على الدفاع عن سيادتها ومصالحها الوطنية في حال تعرضها للتهديد. وفي هذا السياق، أشار إلى أن إثيوبيا تتمتع بعلاقات سلمية مستمرة مع جيرانها منذ سبع سنوات، وأنها ترغب في الاستمرار في هذا الاتجاه، لكن في الوقت نفسه، أبدى استعداداً لحماية نفسها إذا لزم الأمر. وتأتي هذه التصريحات في ظل تصاعد التوترات بين أديس أبابا وأسمرة، على خلفية اتهامات من إريتريا لإثيوبيا بتنفيذ "أعمال استفزازية" وتنظيم "استعراضات عسكرية" قرب الحدود المشتركة.
رسائل طمأنة إثيوبية
ووفق محللين، فإن أبي أحمد اختار هذه المرة أن يرسل رسائل طمأنة، ليس فقط إلى إريتريا، ولكن إلى دول المنطقة، من خلال التأكيد أن إثيوبيا لن تتخذ خطوات قد تؤدي إلى تصعيد النزاع. وعلى الرغم من خطاب الطمأنات، إلا أن المخاوف من حدوث صراع عسكري في الإقليم تتزايد مع بروز نبرة الخطاب بخصوص أحقية إثيوبيا في الوصول إلى منفذ بحري بالسلم أو بالحرب، وهو ما يمكن أن يتطور لاحقاً إلى نزاع عسكري جديد.
ثلاثة أبعاد لتصريحات أبي أحمد
وفي هذا السياق، قال الصحافي الإثيوبي زاهد زيدان، لـ"العربي الجديد"، إن تصريحات أبي أحمد حملت ثلاثة أبعاد: فهي أولاً، عكست تحوّلاً استراتيجياً في عقلية القيادة الإثيوبية من منطق "الحلول بالقوة" إلى "الحلول بالتفاوض والواقعية السياسية". وهذا التحول يرتبط بالسياق الإقليمي والدولي، حيث بات واضحاً أن الحروب الأهلية لم تعد تحظى باهتمام عالمي أو دعم دبلوماسي، كما أشار صراحة بقوله إن "العالم لا وقت لديه لحروبنا".
وثانياً، بحسب زيدان، أن هذا الإدراك يدفع أبي أحمد إلى تبني سياسة استباقية في أكثر من ملف: داخلية عبر منع الحرب في تيغراي شمالي البلاد، وخارجية عبر طرق أبواب سياسية للحصول على منفذ بحري دون اللجوء إلى التصعيد العسكري أو المغامرة العسكرية، وهو ما تناغم مع خطابه السابق حول "الحق التاريخي" لإثيوبيا في البحر، لكن عبر "الطرق القانونية والدبلوماسية".
وثالثًا، فإن إشاراته إلى أن بعض القيادات في تيغراي لا تقرأ الواقع الدولي الجديد تعكس أيضاً رسالة ضمنية للخصوم الإقليميين: إنّ من يراهن على التصعيد أو على توازنات قديمة، سيفشل. وهذا يبرر محاولته الحالية لعقد صفقات بحرية عبر التفاوض مع دول الجوار، مثل الصومال أو مع منطقة أرض الصومال (صوماليلاند)، عبر مقايضات اقتصادية أو سياسية، بدل التورط في نزاع قد يستنزف الدولة ويفقدها دعم المجتمع الدولي.
وأوضح زيدان أنه يمكن قراءة هذا الخطاب على أنه جزء من رؤية سياسية شاملة لإثيوبيا تحاول فيها الحكومة تجنب التفتت الداخلي وتحقيق طموحات استراتيجية – مثل الوصول إلى البحر – دون كلفة عسكرية، عبر تسويق نفسها دولةً تبحث عن الاستقرار، لا عن الصدام.
رسائل أسمرة
وفي هذا الصدد قال الباحث الإريتري، عبد القادر محمد علي، لـ"العربي الجديد"، إن التصريحات المتبادلة بين إثيوبيا وإريتريا التي بلغت ذروتها أخيراً تعكس مساراً متصاعداً من التوتر بين البلدين لا يمكن فصله عن السياق العام للعلاقات المضطربة في الفترة الأخيرة. وأوضح أن حدة هذا التوتر زادت بشكل لافت بعد إعلان الحكومة الإثيوبية "حقها" في الحصول على منفذ بحري سيادي، وهو ما يتجاوز مسألة الوصول إلى البحر لأغراض تجارية، إلى مطالبة ضمنية بقطعة أرض تكون خاضعة للسيادة الإثيوبية الكاملة. كذلك فإن هذا الطرح الإثيوبي يُنظر إليه في أسمرة على أنه تهديد مباشر لسيادة إريتريا، خصوصاً في ظل تصاعد الخطاب الإثيوبي حول العودة إلى البحر الأحمر، والتلميحات بأن استقلال إريتريا لم يعد أمراً محسوماً ويجب "إعادة النظر فيه"، بحسب ما صرّح به أبي أحمد الذي أشار إلى وجود "غطاء تاريخي" يبرر هذه المطالب، في إطار ما وصفه بـ"تصحيح مسارات التاريخ".
وبحسب محمد علي، فإن إثيوبيا تتهم أيضاً النظام الإريتري بدعم جماعات متمردة داخل أراضيها، كان آخرها اتهامات بدعم جناح أفراده بريطانيون في الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي، وهو ما اعتبرته أديس أبابا تهديداً مباشراً لاتفاق بريتوريا المبرم مع جبهة تيغراي في نوفمبر/تشرين الثاني 2022. ويبدو أن أسمرة باتت ترى في هذا المسار المتوتر ما يُشبه التحضير لمواجهة عسكرية، إذ تحدثت الحكومة الإريترية لأول مرة علناً عن أن إثيوبيا تعمل وفق أجندة حربية، وتسعى لحشد الدعم الدولي وشراء الأسلحة، لاستهداف الأراضي الإريترية، وهو ما عبّر عنه الرئيس إسياس أفورقي أخيراً في خطاب رسمي، عاكساً تصورات إريترية بأن التهديد الإثيوبي بلغ مرحلة من الجدية لا يمكن تجاهلها، بالإضافة إلى أن هذا التصعيد لا ينفصل عن المناخ الإقليمي المعقد الذي تمر به المنطقة، حيث تختلف حسابات البلدين وتحالفاتهما بشكل واضح، ما ينذر بمزيد من التوتر في المستقبل القريب.
مخاوف جدية
ورأى باحثون في أرض الصومال أن تصريحات أبي أحمد حول السعي للحصول على منفذ بحري تعكس طموحاً تاريخياً لإثيوبيا للوصول إلى المياه الدولية، لكنها تثير أيضاً مخاوف جدية لدى مجمل الصوماليين، ويعتبر الكثيرون أن هذه التصريحات قد تكون استجابة لمتغيرات سياسية داخلية، خصوصاً الأوضاع المضطربة في الشمال الغربي لإثيوبيا، إضافة إلى مستجدات الأوضاع الدولية في الشرق الأوسط وشرق أوروبا.
محمود حسن عبدي: حكومة أرض الصومال حريصة على ألا تتحول الرغبة الإثيوبية بمنفذ بحري لتهديد لسيادتها أو استقرارها
وحول نيات حكومة أرض الصومال تجاه تصريحات أبي أحمد، وكيفية التعاطي مع ملف مذكرة التفاهم التي وقعتها مع إثيوبيا في يناير/كانون الأول عام 2024، والتي تتيح لإثيوبيا حق الوصول إلى البحر الأحمر عبر أرض الصومال، مقابل اعتراف محتمل من إثيوبيا باستقلال أرض الصومال، أعرب مدير مركز هرجيسا للبحوث والدراسات محمود حسن عبدي في حديث لـ"العربي الجديد" عن اعتقاده أن أرض الصومال تبني سياستها الخارجية تجاه إثيوبيا على مبدأ تحقيق المصالح المشتركة مع الحفاظ على سيادتها، إلا أن تغير بوصلة الإدارة الإثيوبية نحو مقديشو، قد يكون سبباً مهماً لزوال الضغط عن حكومة هرجيسا، فمقتضيات الأمر الواقع على الأرض، لا تتيح لأديس أبابا رفاهية أن تجمع في سياق واحد بين رغبتها في الحصول على موطئ قدم على ساحل أرض الصومال، وأن يتم ذلك عبر الاتفاق مع مقديشو، إذ إن التفاهمات التي حصلت بعيداً عن هرجيسا، تعفيها من التزام مذكرة التفاهم، فيما يصبح عبء منح موطئ القدم ذاك على مقديشو ضمن مناطق سيطرتها الفعلية التي لا تشمل معظم الضفة الجنوبية لخليج عدن.
وأشار حسن عبدي إلى أن حكومة أرض الصومال تدرك أن التعاون مع أديس أبابا يمكن أن يعزز مكانتها الإقليمية ويوفر فرصاً اقتصادية، خصوصاً في مجالات التجارة والبنية التحتية، لكنها حريصة، في الوقت ذاته، على ألا تتحول الرغبة الإثيوبية بمنفذ بحري، إلى تهديد لسيادتها أو استقرارها، وهذا هو مرد سعيها لموازنة العلاقة مع إثيوبيا بالحفاظ على علاقاتها بالشركاء الدوليين مثل الإمارات وتايوان، وتأكيد حقها في تقرير مصيرها دون ضغوط خارجية. واعتبر أن قضية تلبية الطموح الإثيوبي للحصول على منفذ بحري أصبحت في ملعب مقديشو، لا هرجيسا، وهذا لا ينفي أن الأخيرة قد تضطر إلى تعزيز تحالفاتها الإقليمية والدولية لمواجهة أي تهديدات محتملة، مع السعي للحصول على اعتراف أوسع ضمانةً لسيادتها. وعليه، فإن أرض الصومال تجد نفسها عند مفترق طرق يتطلب دبلوماسية ذكية لحماية مصالحها في بيئة إقليمية متقلبة، دون الانخراط في حالة عدم الاستقرار التي تكتنف القرن الأفريقي، وذلك عبر تجنب الانسياق لطموحات الإدارات المحيطة بها وأهوائها، التي اعتادت التلويح المستمر بالحرب تجاه الأطراف الأخرى.

Related News
