في جدوى المقاطعة الأكاديمية
Arab
6 days ago
share

عاش أحرار الأكاديميين في العالم، في الأسبوع الفارط، على وقع إجراء غير مسبوق، اتخذته الجمعية الدولية لعلم الاجتماع بعد تردّد، فعلّقت عضويةَ الجمعية الإسرائيلية لعلم الاجتماع، بمناسبة جدل واسع رافق عزم الجمعية عقد منتداها الخامس في الرباط من 6 وإلى 11 يوليو/ تموز الجاري، بالتعاون مع الشبكة المغاربية لعلم الاجتماع، وتحتضنه مؤسّسات جامعية مرموقة هناك. والجمعية الدولية، التي أُسّست سنة 1949، برعاية منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم (يونسكو)، من أكبر الجمعيات العلمية لعلم الاجتماع من ناحية عدد أعضائها، وكثافة الجمعيات والشبكات العلمية والنوادي والهيئات فيها، إذ تضمّ 167 بلداً ممثلةً في جمعيات وهياكل علمية متخصّصة في علم الاجتماع. ومن هذه الناحية، تفوق حجم (وأثر) الجمعية الدولية لعلماء الاجتماع الناطقين بالفرنسية، إذ أدرجت الأولى التعدّد اللغوي قاعدةً للتخاطب والكتابة، فيما اكتفت الثانية بمستعملي اللسان الفرنسي.

قرار الجمعية الدولية لعلم الاجتماع تعليق عضوية الجمعية الإسرائيلية خطوة جريئة

ورغم الجهود الكبيرة التي بذلها عديدون، من الأكاديميين المغاربة والفلسطينيين وغيرهم، خلال الأشهر الفارطة، ظلّت تلك النداءات محدودةً، ولم تدفع الجمعية الدولية إلى اتخاد أيّ خطوة باتجاه طرد الجمعية الإسرائيلية، أو حتى التلويح باتخاذ إجراءات تحفّظية تجاهها، خصوصاً أنه لم يصدر منها أيّ نقد لسلوكات سلطات بلادها (الاحتلال). ومع ذلك، أصدرت الجمعية عدّة مواقف تدين الإبادة وجرائم الحرب في غزّة. ربّما لم يجد الأكاديميون أنفسهم معنيين بتحديد مواقفهم من التطبيع مثلما حدث بعد "7 أكتوبر" (2023)، كان التطبيع عموماً لدى طيف واسع من هؤلاء يعني موقفاً متطرّفاً ومتشنجاً وشوفيناً، حتى لكأنّ الأمر لا يعني في الحقيقة سوى بعض جماعات علمية عربية، غير أن جملة من الأحداث والتحوّلات حصلت، وقلبت الموقف تقريباً.
اندلعت الحرب بكلّ وحشيتها وبشاعتها، غير أن أصوات الأكاديميين ظلّت في البداية خافتةً، متردّدةً أحياناً، متواطئةً أحياناً أخرى، خصوصاً في ظلّ معطيات موضوعية لا تُنكر، لعلّ أهمها ضعف الكادر الأكاديمي العربي عموماً، وعجزه عن بناء موقف عقلاني موضوعي مقنع تجاه ما وقع، فضلاً عن الإخفاق الذريع في دعوة زملائهم إلى المقاطعة، أو حتى مجرّد التعاطف مع ضحايا الحرب الصهيونية على غزّة من أطفال ونساء وشيوخ أبرياء. كانت الرواية التي قدّمتها إسرائيل في الأسابيع الأولى "الرواية الرسمية"، التي انتشرت وشكّلت قناعات قطاعات واسعة من الأكاديميين في مختلف أرجاء العالم. كانت المغالطات والصور النمطية التي انتشرت في كبريات الصحف الغربية، وفي التغطيات والحوارات آنذاك، لا تنقل فقط وجهة واحدة، إسرائيل، بل إنها أيضاً متحاملة تقوم على التضليل المعلوماتي الذي قلب الحقائق، وحوّل الضحية جلاداً.
إطالة أمد الحرب، التي جرّت مزيداً من جرائم الحرب الإسرائيلة، لا يمكن للأكاديميين أن يسكتوا عنها، فقد شكّكت تدريجياً في براءة الكيان الإسرائيلي، وكان حجم ردّة الفعل، حتى لو سلّم الأكاديميون بأن حركة حماس من بادرت بشنّ الحرب، لا تتناسب مهما حدث ذاك اليوم، بل اتخذتها إسرائيل ذريعة، بحسب ما بدأ ينشره الأكاديميون (إدغار موران، فرانسوا بورغا... وغيرهما)، لاستئناف جرائمها كلّها التي ارتكبتها بدءاً من النكبة، أو حتى ما قبلها. العامل الثاني، الذي كان له الأثر البارز في تحوّلات مواقف الأكاديميين، الانتفاضة الطلابية في أرقى المؤسّسات الأكاديمية، خصوصاً في الولايات المتحدة وبريطانيا، وكذلك فرنسا وهولندا وبلجيكا وألمانيا، وإن بشكل متفاوت بحسب حرية الفضاء العام، والأكاديمي بشكل خاص، فضلاً عن قدرة الحركات الطلابية هناك، هياكل وتقاليد وزعامات، على تعبئة الرأي الطلابي، والتنافذ مع الرأي العام الشعبي، وبقية مؤسّسات صناعته، سواء تعلّق بالجمعيات أو الشبكات الاجتماعية الرقمية... إلخ.

ستمنح جملة الخطوات الجريئة التي أقدمت عليها الجمعية دافعاً رمزياً لبقية الأكاديميين في العالم، من أجل الذهاب في خيار المقاطعة

العامل الأخير قدرة حركات المقاطعة العالمية على حشد الرأي الأكاديمي، وجدير هنا ذكر الحملة الفلسطينية من أجل المقاطعة الأكاديمية والثقافية لإسرائيل (PACBI)، وهي الحملة التي ظلّت محدودةً سنوات، خصوصاً في ظلّ الهرولة نحو التطبيع المتزايد لبعض الدول العربية، والخشية المتنامية في الأوساط الجامعية والثقافية من الانضمام إليها، والالتزام العملي بتنظيم أنشطة، وقد رأينا أن أنظمة عربية سجنت طلاباً متعاطفين مع حركات إسناد غزّة، وهدّدت مثقّفين بالترحيل، لمجرّد إبداء مواقف من حركات تعاطف رمزية،. وقدّم حالة الممثلة التونسية هند صبري في مصر، مثالاً ساطعاً على هذا الغلو العبثي في التطبيع.
ويقدّم صدور قرار التعليق الذي اتخذته الجمعية الدولية لعلم الاجتماع حالةً بليغةً على أمثلة بالآلاف في منظّمات علمية أخرى: جمعيات طبية وهندسية وجغرافية... إلخ، ما زالت متردّدة في تعليق الحضور الإسرائيلي فيها، بسبب تذبذب المواقف العربية بين داع إلى الكراسي الفارغة، أي المقاطعة السلبية والانسحاب، أو مقاطعة نشطة وفاعلة تراهن على احتلال مواقع قرار ونفوذ مهمة، والرهان على التغيير من الداخل، والتشبيك مع فعّاليات أخرى من خارج الحقل الأكاديمي الصرف، وهو ما جرى في منتدى الجمعية الدولية لعلم الاجتماع، الذي سيُعقد الأسبوع المقبل، بحضور ما يناهز خمسة آلاف مُؤتمِر، وفي غياب الجمعية الإسرائيلية، وهو مكسب رمزي مهم، وإن يعدّه بعضهم متأخّراً، وغير جذري، من دون طرد الجمعية أصلاً.
ومع ذلك، ستمنح جملة الخطوات الجريئة التي أقدمت عليها دافعاً رمزياً لبقية الأكاديميين في العالم، من أجل الذهاب في خيار المقاطعة، وهو ما عمدت إليه جامعات غربية، علّقت أشكال التعاون الأكاديمي مع المؤسّسات الإسرائيلية أو ألغتها، على قاعدة الانتصار الأدبي والأخلاقي لعدالة القضية الفلسطينية.

Related News

( Yemeni Windows) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

All rights reserved 2025 © Yemeni Windows