
قال سعود السنعوسي: "مُتْ في بيتِكَ جائعاً مخذولاً، أو اخرج لتلقِّي المساعدات درءاً للجوعِ و... مُت". وكتب لي قبل أيام الشاعر قاسم حدّاد عبارةً بليغة: "نشعر بالألم أن ما يجري يحدُث ونحن نموت". ما في غزّة الآن كلّه يُغري بالبكاء الطويل، بالتغصّة والاحتقان، وأنت تتحرّك بين الناس، وأنت في الشارع تقود سيارتك إلى مبتغاك. ما فيك يا غزّة من الأهوال يغري بالبكاء. المُجوَّعون الذين يهرعون لأخذ معونة الطعام من مؤسّسة غزّة "الإنسانية" الأميركية، غذاء تحت تغطية الرصاص، مطر الموت يسبق كلّ لقمة، ومن نجا الآن لن ينجو في المرّة المقبلة، ومن حصل على شروى نقير يسدّ رمق اللحظة ويلهي آلام المعدة، لن يحصل عليه من دون أن يفقد شيئاً. هناك فيديو لشابّ جريحٍ يصل إلى مجمّع ناصر الطبي حاملاً كيس طحين، رغم إصابته بقصف إسرائيلي استهدف منتظري المساعدات في خانيونس، ما أن وصل إلى باب المستشفى حتى سقط متوسّداً كيس طحينه. لم يكن يعرف أن ثمّة كاميرا تصوّره لتؤبّد اللحظة، وسترى الأجيال اللاحقة ذلك كلّه، وتتساءل: لماذا حدث ما حدث؟ وكيس الطحين الملطّخ بالدم الذي ظلّ وحيداً، من دون أن يمسسه فم، كان هو الفم الذي عبّر عميقاً عن هول الجريمة. يقول الشاعر مهدي الجواهري: "أتعلم أم أنت لا تعلم/ بأن جراح الضحايا فم". الصورة الدامية هي فم الضحايا التي ستنطق إلى الأبد، كما ظلّت (ولا تزال) صورة الطفل محمّد الدرّة شاهدة أبدية على الجريمة.
خاطب المناضل هوشي منه الأميركيين: "ستقتلون منا عشرة مقابل كلّ جندي نقتله منكم، ولكنّنا سننتصر". هذه المقولة لا مكان لها في غزّة، لأن القتلى تجاوزوا حدَّ المبالغة الذي ذكره الزعيم الأممي الفيتنامي، إذ يمكن لعدد القتلى أن يصل يومياً إلى أكثر من مائة في هذه المذبحة الجماعية المفتوحة والمطلقة (الأربعاء الماضي وصل عددهم إلى 120). وفي المقابل، ليس بالضرروة أن يموت أحدٌ من عدوّهم. لا ننكر بسالة النضال الفلسطيني في أرضه، ولكن سيكون رقماً وسط زحام الموت، حين تتكالب أعتى الأسلحة وأكثرها قتلاً على رقعة الموت القصيرة. وغير الموت هناك موت؛ تعرض بعض القنوات لقاءات مع مرضى فقدوا أعينهم بسبب مواد القتل المنتشرة في الأجواء، وأغلبهم أطفال. لم تعُد المستشفيات تلبّي سوى حاجات الرمق الأخير، لا تعيد الحياة بقدر ما تشيع الموت.
مجازر كتب لها ألا تتوقّف، والعرب سبب رئيس لما يحدث لهم. لا توجد حرب في غزّة، بل قتل من طرف واحد، وحشٌ آليٌّ تحجّر في قلبه الضمير، وحش اسمه إسرائيل، وحش جبان، أسد على الضعفاء، يمتهن قتل الأبرياء المجّاني حرفةً، إلى جانب الكذب والخداع والمراوغة ولعب دور الضحيّة، الذي لم يعد ينطلي على أحد. كيان نموذجي لروح الشيطان يؤكّد في كلّ لحظة أنه لا يمكنه أن يتعايش مع أحد، إلا مع نفسه. ذاكرة الموت ليست قصيرةً كما يأمل القاتل، لأن هذا الموت الجماعي الرهيب ليس وليد الذاكرة وشحنات الخيال ورواة الرعب، إنما موت موثّق مرصود، مُتفاعَل معه من أعماق الضمير الشعبي العربي وغير العربي، موت وقوده الأبرياء المُجوَّعون. لذلك لن يمضي فاعلوه حياتهم كما يشاؤون.
يقول الكاتب عماد أبو حطب في صفحته بـ"فيسبوك": "الموت المجّاني فقط من يُسمَح له بالتجول في غزّة، والكلّ لاهٍ بمفاوضات لا تنتهي أصبحت كفيلم أميركي طويل". فحتى لحظة كتابة هذا المقال، ما زال القتل على عواهنه، ومفاوضات وقف إطلاق النار المؤقّت، لم تصل إلى وقف المقتلة، لأن الوحشية الصهيونية التي تمثّلها إسرائيل لا تعرف غير لغة الكراهية والقتل. إسرائيل، أو الشرّ المطلق كما أطلق عليها المفكّر طه عبد الرحمن، يراد لها اليوم أن تطبّع مع دول عربية عديدة، ولكن هل بإمكانها أن تطبّع مع الشعوب، بعد كل هذه الجرائم المجّانية في حقّ العرب؟... لن يكون التطبيع إلا تطبيع مصالح من بعيد، يشبه تطبيعاً افتراضياً لا واقعياً، لا يمكنه أن يكون إلا في أحلام موقّعيه.
