أبو الخصيب... اختصارٌ لـ"الكارثة البيئية" في العراق
Arab
6 days ago
share

صدرت أخيراً تحذيرات من أنّ العراق يواجه تحدّياً مرتقباً في الأشهر المقبلة، نتيجة تدهور الوضع المائي، فيما نسب التلوّث مقلقة وتبعات تغيّر المناخ تلحق به الضرر. ولعلّ قضاء أبو الخصيب مثال حيّ على ذلك.

في قضاء أبو الخصيب الواقع بمحافظة البصرة جنوبي العراق، يشكو السكان ممّا آلت إليه حال منطقتهم، كذلك الأمر بالنسبة إلى مواطنين من محافظات عراقية أخرى يؤكّدون تأثّرهم سلباً بوضع أبو الخصيب. ويُعرَف قضاء أبو الخصيب الذي يعود إلى العصر العباسي الأول، منذ ذاك الحين، بخصوبة أراضيه التي تشتهر ببساتين النخيل التي تختلف أصنافها عالية الجودة بالإضافة إلى الأشجار المثمرة فيما تتخلّلها سواقي مياه، الأمر الذي حوّله منذ عقود إلى منتجع لأهالي البصرة والمحافظات المحيطة بها.

وكانت أهمية أبو الخصيب والمنطقة البديعة في تلك البقعة قد جلبتا الأثرياء قديماً للسكن فيه، وما زالت أطلال بعض قصور تخبر ما كان. لكنّ الجفاف الذي يسبّب تغير المناخ في العراق، أحد أكثر البلدان المتضرّرة من الاحترار، وتجريف البساتين لإقامة مشاريع مختلفة، من بينها مشاريع سكنية، طاولا المنطقة وشوّهاها، الأمر الذي يدفع سكان قضاء أبو الخصيب إلى الاحتجاج. وقد خرج هؤلاء أخيراً في تظاهرات، احتجّوا في خلالها على مستوى الملوحة المرتفع وعلى تردّي الخدمات العامة، مطالبين بإعلان حالة طوارئ ومعالجة شاملة للمياه والبنية التحتية، ولا سيّما وقف ضخّ المياه المالحة وتحسين الخدمات.

وكان مرصد "العراق الأخضر" المتخصص في شؤون البيئة قد أفاد في يونيو/ حزيران المنصرم بأنّ معدّلات الملوحة في شط العرب بمحافظة البصرة وصلت إلى نصف ملوحة مياه البحر، وحذّر من عودة التسمّم إلى هذه المياه بسبب الملوّثات الصلبة التي تحتويها.

في الإطار نفسه، يقول الخبير البيئي أسعد كاظم لـ"العربي الجديد" إنّ "تغيّر المناخ انعكس سلباً على جنوب العراق في السنوات الأخيرة، فالحرارة المتصاعدة والجفاف المستمرّ حجّما منسوب نهرَي دجلة والفرات"، مبيّناً أنّ "كميات المياه الواردة إلى النهرَين انخفضت بأكثر من 50%، بسبب أزمة مياه عميقة في شطّ العرب وشبكة القنوات". ويشرح كاظم أنّ ذلك "أدّى إلى ارتفاع في ملوحة المياه إلى مستويات غير مسبوقة، الأمر الذي قضى على خصوبة التربة وبالتالي على أكثر المحاصيل، بما في ذلك نخيل أبو الخصيب الذي كان يُعَدّ من أبرز محاصيل التمور وأكثرها جودة".

ويلفت كاظم إلى أنّ "سواقي أبو الخصيب تتغذّى من شط العرب الذي يتكوّن من التقاء نهرَي دجلة والفرات في شمال البصرة، ويصبّ في الخليج العربي. لكن مع الانخفاض الكبير في منسوب النهرَين، أخذ اللسان الملحي الآتي من الخليج يتمدّد في شط العرب، الأمر الذي أثّر على بساتين أبو الخصيب وقضى على مساحات شاسعة منها".

من جهته، يقول الخبير البيئي أحمد حسن، إنّ قضاء أبو الخصيب يختصر اليوم "وجه الكارثة البيئية المتواصلة" التي يشهدها العراق. ويوضح لـ"العربي الجديد" أنّ "ما يحدث في أبو الخصيب ليس مجرّد نقص في المياه، إنّما هو اختناق بيئي كامل"، لافتاً إلى أنّ "هذا الوضع يطاول كذلك مناطق أخرى في البصرة ومحافظات جنوبية أخرى، وهو غير محصور بقضاء أبو الخصيب فقط". يضيف حسن أنّ "التربة صارت عاجزة عن إنتاج أيّ محصول، والمياه الجوفية تحوّلت إلى خزانات ملح وسموم، والسكان باتوا يستهلكون مياهاً غير صالحة حتى للاستحمام".

ويؤكد حسن أنّ "الأضرار لا تقتصر على الزراعة، بل تمتدّ لتطاول البيئة ككلّ والصحة العامة"، مؤكداً أنّ "زيادة الملوحة في المياه لا تُضعف الزراعة فحسب، إنّما تؤثّر سلباً على صحة السكان". ويشير الخبير العراقي إلى أنّ "أنواعاً من الحيوانات والطيور المائية هجرت المنطقة أو نفقت تدريجياً، نتيجة فقدان مواطنها الطبيعية"، موضحاً أنّ "اختفاء هذه الأنواع مؤشّر حيوي إلى الانهيار البيئي".

والوضع المأزوم في قضاء أبو الخصيب دفع عراقيين كثيرين إلى النزوح، من بينهم فاضل مهدي الأربعيني. يخبر ربّ الأسرة المكوّنة من ستة أفراد أنّه اضطر قبل عام إلى ترك منزله والانتقال إلى مركز محافظة البصرة، مشيراً بحديثه لـ"العربي الجديد" إلى أنّه لم يكن يعتقد في يوم أنّه سوف يترك مدينته، "لكنّني أُجبرت مع عائلتي على النزوح". ويشرح أنّ "الخدمات مفقودة، ولم يعد قضاء أبو الخصيب مثلما كان في السابق؛ بسبب الجفاف تفاقمت المشكلات البيئية والصحية". ويؤكد مهدي: "اضطررت إلى الرحيل تاركاً بيتي الواسع، وسكنت في منزل صغير مستأجر قريباً من مقرّ عملي في مركز المدينة".

من جهته، لا يخفي أحمد سعيد، موظف حكومي ثلاثيني يسكن عند أطراف القضاء، غضبه ومرارة التجربة التي يعيشها. ويقول لـ"العربي الجديد" إنّ "الحياة في أبو الخصيب لم تعد تُطاق. لا مياه صالحة للاستهلاك البشري، ولا كهرباء منتظمة، حتى شبكات الصرف الصحي تعاني من أعطال". ويتحدّث سعيد عن "بستان قريب تحوّل إلى أرض صفراء"، مشيراً إلى أنّ "هذا المكان كان مزروعاً بكروم العنب، وكانت أشجار النخيل تُظلّلنا. حتى في ظهيرة فصل الصيف، كنّا نستمتع بأجواء هذا البستان المنعشة. أمّا اليوم، فلا نجد إلا جذوع النخيل الميّت والأرض التي سيطر عليها الجفاف بعدما كانت تزهو بالخضرة".

في سياق متصل، يقول الحاج خضير أبو يوسف لـ"العربي الجديد" إنّ "ذكرياتي في أبو الخصيب هي التي تجعلني أحتمّل المعاناة التي أعيشها وسط جفاف السواقي وموت البساتين". يضيف العراقي الستيني، مستذكراً شيئاً من الماضي: "مذ كنت في السادسة من عمري، كنت أبحر مع إخوتي في سواقي أبو الخصيب. كنّا نركب زوارق خشبية صغيرة، ونجول بين أشجار النخيل التي تحجب حرارة الشمس عنّا". ويتابع أبو يوسف: "حتى في أشهر الصيف الحارة، كان الجو لطيفاً والمياه نقية وأشجار النخيل كثيفة يلامس بعضها بعضاً. لم نكن نستعين بأجهزة تبريد، الطبيعة وحدها كانت ترعانا". ويتنهّد وهو يلفت إلى أنّه يتجاوز واقعه "المزري اليوم، مستعيناً بصور أبو الخصيب الجميلة المخزّنة في ذاكرتي".

Related News

( Yemeni Windows) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

All rights reserved 2025 © Yemeni Windows