
يعيش أهالي قطاع غزة أوضاعاً مأساوية خلال شهر رمضان نتيجة استمرار النزوح ونقص المواد الغذائية وانقطاع الكهرباء ونقص المياه.
يعيش الأهالي أوضاعاً مأساوية مع استمرار أزمات الكهرباء والمياه، وقلة الطعام، ولا زالت الطوابير طويلةً أمام المخابز وشاحنات المياه، وكثيرون ينقلون المياه في دلاء يدوية رغم التعب والصيام الذي ينهك قواهم، أو ينتظرون أمام أبواب التكايا الخيرية للحصول على بعض الوجبات.
ورغم محاولة أهالي القطاع تجاوز المعاناة، يصطدمون بغلاء الأسعار رغم عدم توفر الأموال، فيما تسيطر أجواء الحرب عليهم مع حلول ساعات المساء مع انعدام التيار الكهربائي، وبالتالي تختفي أجواء التزاور العائلي التي اعتادوا عليها، إضافة إلى غياب مظاهر الزينة، وقلة أعداد المساجد.
تعيش الفلسطينية سمارة نوارة في خيمة بأحد مراكز الإيواء غربي مدينة غزة، ولم تكن محاولاتها إعداد طعام السحور في أول ليالي رمضان سهلة، إذ استيقظت عند الساعة الثانية فجراً، وحاولت إشعال النار أمام الخيمة، لكن الرياح الباردة كانت تطفئ النار قبل اشتعال الأوراق التي وضعتها داخل موقدها، في ظل عدم توفر غاز الطهي.
بعد نحو عشرين دقيقة من المحاولات الفاشلة، استعانت نوارة بابنها محمد (15 سنة) لإشعال النار، لكنه أيضاً واجه صعوبات لذات السبب، وطلب من أمه التوقف عن المحاولة، قائلاً: "خلص بلاش نتسحر اليوم"، لكن فجأة تصاعد الدخان من الموقد مع نجاح آخر محاولاته، ليترك أمه تعد الطعام.
مع قرب انتهاء نوارة من إعداد الوجبة، تعرضت لمشكلة جديدة غير متوقعة، إذ هطلت زخات غزيرة من الأمطار على نحوٍ مفاجئ، وتحكي لـ"العربي الجديد": "لم أستطع دخول الخيمة من دون استكمال إعداد وجبة السحور، فجلست بضع دقائق أمام النار حتى انتهيت من تجهيزها، وإعداد الشاي، ووقتها كانت مياه الأمطار قد بللت كل ملابسي".
لا يملك الكثير من أهالي غزة ما يمكّنهم من إعداد وجبات الإفطار
على مدخل خيمتها يتدلى حبل زينة وضعته كي يشعر أطفالها ببهجة حلول شهر الصيام، وهو ذات الحبل الذي يتدلى على خيام أخرى إلى جوار فوانيس ورقية. تبتسم "أم محمد" رغم المرارة، وتعلق: "نحاول رسم الفرح على وجوه الأطفال، وأن نشعر أنفسنا ببعض أجواء رمضان، لكن كلما حاولنا ذلك نجد أنفسنا في مواجهة واقعنا المُر. بعد تجهيز الطعام والشاي الذي استغرق نحو ساعة ونصف الساعة، انتبهتُ لنفاد شحن البطارية، ولم نجد حتى شمعة تمنحنا بعض النور، ما دفعنا إلى تناول الطعام في العتمة".
تستحضر نوارة ذكريات أجواء رمضان قبل العدوان بنبرة حسرة: "كنا في اليوم السابق على بدء الشهر نذهب إلى الأسواق، ونجهز بيوتنا، ونعلق حبال الزينة، ونزور عائلاتنا، ثم نذهب ليلاً لأداء صلاة التراويح في المساجد، لكن أين هي المساجد الآن؟ كلّها مدمرة، صحيح أن رمضان شهر خير، لكن استقباله في الخيام أو على ركام البيوت يجعل الفرحة ناقصة أو باهتة".
على مقربة منها، يقف الفلسطيني أبو يزن موسى شارداً أمام خيمة مشابهة، يتذكر بشوق الجلسات العائلية، وتقفز أمامه ذكريات استقبال رمضان في السنوات السابقة، بينما عائلته تفرقت نتيجة تدمير منزلهم في مخيم جباليا، وهو يعيش حياة النزوح داخل مخيم الإيواء في مدينة غزة.
يستحضر موسى كيف كان يقضي رمضان قائلاً لـ"العربي الجديد": "كانت أيامنا حلوة، ويأتي رمضان فنتسابق على صلاة الجماعة في المساجد، وبعد صلاة التراويح أتجمع مع أخوتي، كلٌ رفقة أولاده وزوجته، فنتسامر ونأكل الحلوى في أجواء عائلية سعيدة".
يعود من تلك المشاهد التي استحضرتها ذاكرته، ليقف أمام واقعه المرير، ويضيف: "أعيش في خيمة داخل مخيم إيواء بمدرسة البراق، بينما يتوزّع أخوتي على أكثر من مخيم إيواء، وبعضهم لا أعرف أماكنهم بعد تدمير منزلنا وهدم أحلامنا".
تتبادل زينب حسنية مع مجموعة من النساء أطراف الحديث، وكل واحدة تروي للأخرى الصعوبات التي تعيشها، تقول لـ"العربي الجديد": "استطعنا تحمّل أوضاع أصعب بفضل الله، فخلال الحرب مررنا بموجات نزوح وتجويع، وكانت تلك الفترات أشبه بالصيام القسري، كنا أحياناً نأكل رغيف خبز واحد في اليوم، وأحياناً لا نجده".
قبل فجر أول أيام رمضان، أوقدت حسنية شمعة نتيجة انعدام سبل الإنارة كي تعد الطعام، وكانت تتفقد الشمعة بحذر خشية سقوطها، والتسبب بحريق داخل الخيمة. في الليل لا يمكنك أن ترى إصبعك من شدة الظلام، ومعظمنا لا يمتلك مصابيح، لم يتغير شيء مع حلول رمضان، فوضعنا هو نفسه منذ بداية العدوان".
وسط ساحة مركز إيواء مدرسة فلسطين بمدينة غزة، الذي يضم نازحين من حي الشجاعية، تجلس نانا جندية مع أربع سيدات رغم أنه لم يتبق سوى ساعة على أذان المغرب. لم تعد أيّ منهن طعاماً للإفطار، والسبب هو الظروف القاسية التي يعشنها، إذ لا يملكن ما يمكنهن من إعداد وجبة الإفطار، بينما عيونهن على باب المدرسة، آملاتٍ أن يطرقه فاعل خير.
تقول جندية لـ "العربي الجديد": "لا ندري ما الذي يمكننا فعله، فالأوضاع ليست سهلة، إذ لا يتوفر لدينا ما يمكّننها من إعداد الطعام، كما أن أسعار الأغراض في الأسواق مرتفعة، وأزواجنا متعطلون عن العمل بسبب الحرب، ولا يوجد أي مصدر للدخل". كأس مياه مع رغيف خبز بالجبنة والزعتر كان كل ما تناولته جندية في السحور، تقول: "ليس عدم توفر الطعام ما يحزنني فحسب، إذ نشتاق إلى الصلاة في المساجد أيضاً، فلا يوجد في المدرسة مصليات، وكل شخص يصلي في الفصل الذي يأويه".
في مثل هذه الأيام من شهر رمضان الماضي، استشهد شقيقها، فايز جندية، وتحضرها تفاصيل استشهاده: "تعرض لقصف من جيش الاحتلال أثناء ذهابه لجلب الطحين من دوار الكويت، فكانت لقمة مغمسة بالدماء. في العام الماضي، كانت أكلة الخبيزة، وهي نبتة تنمو في الشوارع والأراضي، طعام أهل مدينة غزة في رمضان، مع اشتداد الحرب والتجويع الذي مارسه الاحتلال، وهي تجربة يمكن أن تتكرر هذا العام، فالمعاناة مستمرة رغم أن الحرب توقفت، لأن أسعار كل السلع مرتفعة، ولا يمكننا شراؤها".
داخل ممر مدرسي، يوشك سليم جندية على الانتهاء من إعداد "القطر" لسكبه على "القطايف" بعد صلاة التراويح، وهذه الحلوى من بين الطقوس التي اعتاد أهالي القطاع عليها في رمضان، ولطالما زينت الجلسات العائلية، لكن جندية يقول لـ"العربي الجديد" وهو يحرّك القطر داخل إناء على نارٍ يجلس قربها: "في العام الماضي لم نتمكن من إعداد حلوى القطايف بسبب الحرب، واليوم نعدها بما يتوفر بعد خمسة عشر شهراً من المعاناة والحرب كي نتذوق طعم الفرح".
صنع جندية الفوانيس الورقية لإضافة البهجة على أجواء شهر الصيام، وما إن انتهى من إعداد الحلوى، حتى جهزت له زوجته "العدس" الذي وضعه على النار، رغم أنه وجبة متكررة في حياة النازحين، كان الرجل يرغب في طهي "الملوخية" على سبيل التغيير مع بداية رمضان، لكن الظروف المعيشية الصعبة حالت دون تمكنه من ذلك، فكان العدس هو الخيار الأسهل.
خلال بحثه عن مسجد للصلاة، أغرقت الأمطار الحاج أبو رمزي، أثناء ذهابه إلى صلاة الفجر، وتكرر الأمر في صلاة الظهر، إذ لا يتوفر مصلى داخل مركز الإيواء، الأمر الذي يضطره للسير بخطوات متثاقلة متكئاً على عكازه بحثاً عن مسجد للصلاة.
ودمر جيش الاحتلال خلال عدوانه 1109 مساجد في قطاع غزة، من بينها 834 مسجداً دمرت كلياً، و275 جزئياً، وذلك من مجموع 1244 مسجداً كان يضمها القطاع.
ولإضفاء أجواء فرح داخل المدرسة، تطوع عدد من الأهالي لتنظيف الساحة، وترك مساحة للعب الأطفال، وبينما يجلس الكبار فيها نهاراً، يلهو الأطفال ليلاً بواسطة "السلك الحديدي" الذي يستخدم في جلي الأواني، إذ يشعلونه ليلاً ويحركونه على شكل دائرة، ما يشكل حلقة نار دائرية، وهذه اللعبة يمارسها الأطفال في معظم شوارع غزة.
مع حلول وقت صلاة العشاء، تبدو شوارع غزة على خلاف ما كانت عليه قبل العدوان الإسرائيلي، إذ تختفي أجواء الفرح التي كانت تملأ هذه الأوقات في السابق، كما تختفي حبال الزينة والإضاءة، فغالبية الناس لا يملكون "ليدات" (مصابيح) طاقة بديلة والغالبية ينامون في العتمة، ولم تعد كثير من العائلات تذهب جماعياً إلى الصلاة في المساجد القليلة القائمة، التي باتت تعد على أصابع اليد في كل منطقة بعدما طاول الدمار غالبية المساجد.
