
على ساحل المحيط الأطلسي، حيث تتعانق أمواج البحر بزرقة السماء، يقف مسجد الحسن الثاني بمدينة الدار البيضاء في المغرب شاهداً على روعة العمارة العربية الإسلامية، وعبقرية الصانع المغربي، كما يروي أيضاً قصة تاريخ عريق يمتزج فيه الماضي بالحاضر. بمئذنته الشامخة، التي تُطاول أعنان السماء، ونقوشه التقليدية وشماساته المتفردة، يظل رمزاً للهوية الثقافية والدينية، ووجهة تسحر القلوب قبل الأبصار. إنه ليس مجرد مكان للعبادة، بل مساحة مفتوحة للحوار الروحي والجمالي، وتحفة فنية بإشعاع عالمي.
شُيد المسجد عام 1987 بتوجيه من الملك الراحل الحسن الثاني، الذي وضع حجره الأساس في يوليو/تموز 1986، وعُهد بتصميمه إلى المهندس الفرنسي ميشيل بينسو، فاستمر العمل فيه طيلة سبع سنوات كاملة حتى تم تدشينه في العام 1993، تزامناً مع ذكرى المولد النبوي، ليصبح ثالث أكبر مسجد في العالم بعد المسجد الحرام بمكة المكرمة والمسجد النبوي بالمدينة المنورة.
تنفرد هذه الجوهرة المعمارية الممتدة على مساحة 90 هكتاراً بموقعها الفريد فوق الماء، تجسيداً للآية القرآنية "وكان عرشه على الماء". وقد أطلق عليه البعض اسم "المسجد العائم" نتيجة لهذا الموقع الاستثنائي. وقد حدد الراحل الحسن الثاني موقعه وأعلنه في خطاب ألقاه في مدينة الدار البيضاء، قائلاً: "أريد معلمة فنية شامخة يمكن أن تفخر بها الدار البيضاء إلى الأبد. أريد أن يشيد على حافة البحر صرح عظيم لعبادة الله مسجد تهدي مئذنته جميع السفن القادمة من الغرب إلى طريق الخلاص الذي هو طريق إلى الله".
لا يمكن لزائر هذا المسجد إلا أن يقف منبهراً أمام روعة العمارة ودقتها المتناهية من الأبواب الثمانية عشر الموزعة على واجهاته، إلى المئذنة، التي تعد من أعلى المآذن في العالم، فهي تمتد إلى 200 متر في السماء، وقد زينت بزخارف من الفسيفساء التي تضفي عليه بريقاً خاصاً. أما قاعة الصلاة فتتوزع على مساحة 20 ألف متر مربع، وتتسع لحوالي 25 ألف مصلٍّ. ومن أبرز مميزاتها سقفها المتحرك الذي يمكن فتحه في غضون دقائق قليلة، ليحول القاعة إلى فناء مشمس، في تقليد للبنايات القديمة التي تتميز بها الهندسة العربية الأندلسية.
في السياق يقول أستاذ التاريخ في كلية الآداب والعلوم الإنسانية بمكناس أحمد بوزيدي، إن المساجد احتلت عبر تاريخ المغرب مكانة حضارية هامة ومتميزة، ولا يخفى على أحد أنها أول ما يُبنى وحولها تشيد معالم الحياة والأحياء والمرافق الحيوية وغيرها. ويضيف لـ "العربي الجديد"، من هذا المنطلق فإن مسجد الحسن الثاني يكتسي عدة أبعاد من حيث رمزية المكان والمدينة، فأن يُبنى مسجد بهذه الضخامة والجودة والجمالية في مدينة اقتصادية كالدار البيضاء يحيل على أن الاقتصاد له روح، وأن المغاربة لا يغفلون عن صلاتهم وتدينهم رغم أنهم وسط الأرقام والصفقات وقرب الميناء. ومن جهة ثانية، فإن هذا المسجد الذي نصفه في الماء ونصفه في اليابسة، يعطي دلالة رمزية على أن المغرب لم يكن يوماً بلداً منغلقاً على ذاته، بل منفتح على البحر وعلى المحيط الدولي، وهذا كان ديدنه عبر التاريخ في تجسيد لهذا الامتداد الحضاري. بالإضافة إلى حضور المعمار المغربي، وكأن ما انتهت إليه الحضارة المغربية جُمع في هذا المسجد، من فسيفساء وزليج ونقش على الخشب والجبس ودقة القباب التي استلهمت من التراث المعماري المغربي، وهذا دليل على ربط الماضي بالحاضر. من دون إغفال الاحتفاء بالصانع التقليدي، الذي شارك في بناء هذا الصرح، والإعلاء من شأن الصنعة في هذا المتحف المفتوح.
وسط ساحة المسجد التي تمتد على مساحة تبلغ 30 ألف متر مربع، وقف وفد من السياح القادمين من الصين والدهشة تعلو ملامحهم، من روعة الأبواب والزخارف والممرات المزينة بأروقة من الحجر الجيري الجميل، والصومعة التي تعانق السماء، كانوا يوثقون اللحظة بصور وهم يستمعون بإمعان إلى دليلهم المغربي الذي كان يقدم لهم معلومات تاريخية عن المسجد وأبوابه مطلّة على المحيط الأطلسي والأسقف والقباب الخشبية المنحوتة بدقة، بالإضافة إلى الألواح الحائطية المزخرفة بالزليج المغربي ذي الأشكال الهندسية الجميلة والأفاريز التي تحمل آيات قرآنية منقوشة بخط عربي أصيل. تقول سائحة أجنبية قادمة من الصين وقد التمعت عيناها إعجاباً لـ "العربي الجديد"، إن هذه الساحة فسيحة جداً وقد أخبرنا الدليل أنها قادرة على استيعاب ما يصل إلى 80 ألف شخص، أما المسجد فهو ساحر حقاً، من حيث الزخارف والخشب والإضاءة وباقي المرافق التي تضفي عليه فرادة وتحمل الرائي في سفر عبر التاريخ والعمارة في أبهى صورها.
وعبّر زائر من جنسية عربية عن إعجابه بزخارف الزليج وفسيفساء الخزف الملون على الأعمدة والجدران وخشب الأرز والشماسات وقال لـ "العربي الجديد"، يحق للمغاربة وسكان مدينة الدار البيضاء أن يفخروا بهذه اللؤلؤة الأطلسية التي شيدت على الماء بدقة متناهية، حيث تم إيلاء العناية بكل التفاصيل حتى تخرج إلى الوجود معلمة شامخة تمنح الزائر طمأنينة وسكينة روحية، وقد كنت محظوظاً أن صليت فيه طيلة شهر رمضان وسط حضور منقطع النظير خاصة في صلاة التراويح".
وفي السياق يوضح الباحث في التاريخ والحضارة المغربية هشام الأحرش، لـ "العربي الجديد"، أن مسجد الحسن الثاني يشكل قلب مدينة الدار البيضاء النابض وتاجها المرصع ورمزها الذي تشتهر به، كما هو الحال عند الحديث عن جامع الكتبية في مراكش وحسان في الرباط والقرويين في فاس... وأن ترتبط المدن المغربية بالمساجد فهذا شيء مهم جداً، ويعكس إشعاعاً ثقافياً وعالمياً، بالإضافة إلى أن هذه المعلمة تنفرد بفسيفساء ونقوش لا توجد في غيرها، كما هو حال الشماسات المرمرية التي أبدعها الراحل مولاي حفيظ العلوي، بالإضافة إلى إبداعات الراحل محمد بلمين، في فن الخشب التقليدي، خصوصاً في القباب والبرشمان. ويضيف "لقد ارتبطت المساجد في المغرب بأدوار ووظائف متعددة، فقد كانت فضاءات للتشاور والاجتماع وقراءة رسائل مرتبطة بأحداث تاريخية ومنها تلك التي تليت مبشّرة بالانتصار في معركة الزلاقة، كما عرفت بأدوارها العلمية بمثابة الجامعة وليست فقط مكاناً للتعبد وأداء الصلوات". ويتابع "وهنا لا يمكن الحديث عن مسجد الحسن الثاني، دون استحضار المدرسة القرآنية التي أُعيد تسميتها في عام 2016 إلى "مدرسة العلوم الإسلامية". بالإضافة إلى ذلك، "تبرز أكاديمية الفنون التقليدية، وهي الحاضنة لهذا الإرث المعماري والتي تضطلع بمهمة الحفاظ عليه، ما يمنحها إشعاعاً ثقافياً مرتبطاً بالعمارة التي تعكس إبداع الشعوب على مر التاريخ". إلى جانب المتحف الذي يمتد على مساحة 3.160 متراً مربعاً، ليكون بمثابة مدخل لاكتشاف المسجد وتاريخه. بالإضافة إلى المكتبة الوسائطية التي تزخر برصيد معرفي متنوع بلغات مختلفة، وتسعى إلى تسهيل الوصول إلى المعرفة وترسيخ ثقافة القراءة وتعزيز التبادل الثقافي.
