
في لوحة النمساوي غوستاف كليمت "القُبلة" عام 1908 يتوقف الزمن عند لحظة تماسّ بين عاشقَين، وتصبح القبلة رمزاً للذوبان في الآخر. واليوم، في السادس من يوليو/ تموز، يحتفل العالم بـ"يوم التقبيل العالمي"، احتفالٌ وإن بدا عابراً، لكنه يوقظ صوراً ومشاهد من تاريخ الأدب والفكر والفن.
لماذا نُقبّل؟
في كتابها "علم التقبيل.. ما تُخبرنا به شفاهنا" (ترجمة المجتبى الوائلي عن دار سطور، بغداد، 2021)، تدرس الباحثة الأميركية شيرل كيرشنباوم ظاهرة التقبيل بمقاربة يتقاطع فيها البحث البيولوجي والنفسي والتاريخي. تشرح أسئلة مثل: لماذا نُقبّل؟ وما الذي يحدث داخل أجسامنا وعقولنا أثناء التقبيل؟ وكيف يختلف هذا السلوك بين الثقافات وعبر العصور. تاريخ القبلة، وفقاً للكتاب، معقّد ومتعدد الأوجه، حيث يرى العلماء أنها لم تنشأ من مصدر واحد، بل ظهرت واختفت في أماكن مختلفة ولأسباب متنوعة: الطاعة والتدين والحميمية، ويلفت آخرون إلى نظريات نفسية مثل رأي فرويد بأن القبلة امتداد لرغبة فموية متجذّرة في تجربة الرضاعة.
يقف الكتاب أيضاً عند الناحية التاريخية، حيث سُجّلت ممارسات التقبيل في حضارات قديمة كالهند وسومر ومصر، ووصفها الأدب الكلاسيكي في نصوص مثل "الكاماسوترا" و"فن الحب" لأوفيد. لكن الموقف من القبلة لم يكن دائماً إيجابيّاً، كما تُنبّه كيرشنباوم؛ فقد سخر منها (بعض) الشعراء، وحرّمها رجال الدين. وضمن هذا السياق المديد، ظهر في القرن السابع عشر الأديب الألماني مارتن فون كيمبي، الذي ألّف موسوعة زادت على ألف صفحة جمع فيها أكثر من عشرين نوعاً من القبلات.
في سياق عربي
عربياً يبرز كتاب الباحث العراقي حسين علي الجبوري "القبلة وتقاليد التقبيل في شرائع الحبّ والدين والسياسة" (دار آراس، أربيل، 2012)، الذي يبدأ بتعريف القبلة من حيث أصلها اللغوي وتطور مفاهيمها عبر التاريخ. وهنا لابد أن نُشير إلى عمل الأميركي هيو موريس الذي كان قد وضع كتاباً في ثلاثينيات القرن الماضي سمّاه "فنّ التقبيل"، زعم فيه أنه من الصعب تعريف القُبلة، لأن كلّ واحدة تختلف عن سابقتها، وكما أنه لايوجد اثنان متشابهان تماماً، كذلك لا توجد قُبل تتطابق في ما بينها بشكل كلّي. وبعد صدور كتاب موريس راجت في الغرب سلاسل كتب تبسيطية تحت ذات العنوان العريض، تجمع الإثارة باستفزاز الغرائز المكبوتة.
وينتقل الجبوري إلى استعراض دور القبلة في الشرائع الدينية المختلفة، والعودة الكتاب المقدس ونشيد الأناشيد، ويفكك شيفرات أشهر القُبل من يهوذا للمسيح. كذلك يتطرق إلى موقع القبلة في التراث العربي الإسلامي، حيث تتداخل دلالاتها بين الحب والعاطفة كما في "نشيد الملك امرئ القيس"، تظهر القبلة كرمز سمو للحب وعذوبته، ويقرأها في سياق التقاليد قبيلتَي العشّاق الشهيرتين: بني عُذرة وبني عامر، ويستطرد في تتبّع أثرها "في محيط النبوة". كذلك يركز الجبوري على الجوانب الدينية، مثل تقبيل الأيقونات والقديسين في المسيحية، وطقوس التبجيل والبركة، إلى جانب القبلة كطقس علاجي في بعض الثقافات.
من تشيخوف إلى دانيال ستيل
في الأدب العالمي المعاصر عنوَن أنطون تشيخوف واحدة من أطول قصصه بـ"القُبلة"، وتدور حول قبلة بالخطأ من امرأة مجهولة في غرفة مظلمة لرجل لا تعرفه. وهو الضابط الخجول ريابوفتش، الذي يعيش على هامش الحياة الاجتماعية، ضعيف الشخصية وعديم الثقة في نفسه. أثناء مشاركته في حفل بأحد القصور، يشعر بالغربة والانطواء في عالم لا ينتمي إليه. وبينما يتجول وحيداً، يدخل بالخطأ إلى غرفة مظلمة، فتدخل عليه فتاة وتقبّله ظنّاً أنه شخص آخر، ثم تهرب خجلة. تلك القبلة العارضة، رغم كونها خطأ، تهزّ كيانه الداخلي وتوقظ في روحه وهماً جميلاً وحياة بديلة كان يتمنى أن يعيشها. لكن الواقع يظل كما هو، وتبقى القبلة مجرد لحظة عابرة في حياة رجل يعيش في ظلال نفسه أكثر مما يعيش في العالم الحقيقي.
أما الروائية الأميركية دانيال ستيل (1947) فقدّمت عملها السردي "القُبلة" مطلع الألفية، من زاوية صوت المرأة وموقعها في العلاقة مع الرجل، واللافت أن لوحة كليمت التي أشرنا إليها في بداية المقال قد صدّرت غلاف الرواية بطبعتيها الإنكليزية وكذلك الترجمة العربية. يروي العمل حكاية إيزابيل فورستر الزوجة التي تعيش حياة من العزلة، وتحاول تجربة الحبّ مع شخص آخر. عند حدود العزلة والاغتراب هذه نجد تقاطعاً بينها وبين بطل تشيخوف "ريابوفيتش"، لكن ستيل تأخذنا أبعد إلى قلب الحياة الحداثية السريعة في المدينة الغربية، وغن كان ذلك بسرد رومانسي بعيد عن الأسئلة الوجودية الكبرى التي تميّز كلاسيكات الأدب الروسي.
ما كان أحلى قُبلات الهوى
في كتابه "الحبّ في الميزان" يُخصّص المترجم المصري الراحل أمين سلامة (1921-1998) فصلاً كاملاً للحديث عن القُبلة في التراث العالمي، ومن بين الأشعار التي يوردها أبيات للشاعر اللبناني الأخطل الصغير يقول فيها: "ما كان أحلى قُبُلات الهوى/ إن كنت لا تذكرُ فاسألْ فمَكْ/ تمرُّ بي كأنني لم أكنْ/ ثغرك أو صدرك أو مِعْصَمكْ/ لو مرَّ سيفٌ بيننا لم نكن/ نعلمُ هل أجرى دمي أو دمكْ". كذلك يستعيد ما كتبه شيلي: "ألا تَرَيْن الجبالَ تقبِّل السموات/ والأمواج تقبِّل بعضها؟/ ألا ترين ضوء الشمس يقبِّل الأرض/ وضياء القمر البحر؟/ ولكن ماذا تفيد كل هذه القبلات/ إن لم تقبِّليني أنتِ يا حبيبتي!". ويذكّر بما كتبه بِن جونسون: "إن تتركي في الكأس قبلة، فلن أبحث عن الخمر أبداً".
في رحاب الثقافة الشعبية
رغم ما يبدو على الكتب التجارية المجهولة التي تُباع على الأرصفة من سطحية أو ركاكة، والتي يمكن إدراجها في خانة "الكيتش" الأدبي، إلا أن هذه المنتجات الثقافية الشعبية، غير المُعترف بها في الأوساط الأكاديمية، تمثل مرآة لمكبوتات جمعية لا تجد متنفساً في الفضاءات الرسمية. المثير أن التقبيل في الوجدان العربي، وخاصة في لغته الشعبية، لا يُشار إليه غالباً بالاسم الحقيقي "التقبيل"، بل باسم "البوس"، الذي بات أكثر رواجاً وشيوعاً في الأغنية والسينما والحوار اليومي. وتحضر هنا أغنية عبد الوهاب الشهيرة "بلاش تبوسني فى عينيا دي البوسة فى العين تفرّق/ يمكن في يوم تعود ليا والقلب حلمه يتحقق/ خلي الوداع من غير قُبل علشان يكون عندي أمل". ليرسخ الفن ما توصل إليه الأدب، بأن القبلة تتجاوز كونها مجرد تلامس شفاه، بل تشكل لغة كاملة، قد يُعبر عنها بالعامية أو بالفصحى، بالشعر أو بالنكتة، بكتاب أو بأغنية... لكنها في حد ذاتها تجربة خاصة.

Related News

