
مذ استباح الاحتلال مقابر قطاع غزة في سياق عدوانه الشامل عليه، وفي ظلّ الأعداد الكبيرة للشهداء الذين يسقطون ضحايا لآلة الحرب الإسرائيلية منذ 21 شهراً، يعاني الفلسطينيون لدفن موتاهم، ولا سيّما شهداؤهم.
بات إكرام الميت، بمن في ذلك الشهيد، مهمّة صعبة في قطاع غزة، مع امتلاء المقابر ووقوع عدد كبير منها في مناطق أمر الاحتلال الإسرائيلي بإخلائها، أو في مناطق عمليات عسكرية، كما هي الحال بالنسبة إلى مقبرة الشهداء شرقي مدينة غزة شمالي القطاع الفلسطيني المحاصر. وهكذا، تتأخّر عمليات الدفن لساعات، إلى حين عثور العائلة على مساحة فارغة، علماً أنّ كثيرين صاروا يلجأون إلى فتح قبور موتاهم السابقين لدفن الحاليين، ولا سيّما الشهداء، أو يعمدون إلى دفنهم في ممرّات فاصلة بين القبور.
في غرب مدينة غزة الواقعة بمحافظة غزة، وفي ظلّ نزوح غالبية سكانها بالإضافة إلى مواطنين من محافطة شمال غزة التي تمثّل مع محافظة غزة المنطقة الشمالية من القطاع، زاد لجوء الفلسطينيين إلى مقبرة الشيخ رضوان من أجل دفن شهدائهم. ويأتي ذلك على الرغم من أنّ وزارة الأوقاف والشؤون الدينية الفلسطينية في قطاع غزة كانت قد أغلقت هذه المقبرة قبل سنوات بعد امتلائها بالكامل، غير أنّ الأهالي لا يجدون بديلاً منها، في ظلّ عدم تمكّنهم من التوجّه إلى شرقي المدينة.
ومع تخطّي عدد الشهداء في قطاع غزة 57 ألف شهيد، وفقاً للأرقام الحكومية في القطاع، مع العلم أنّ ثمّة تقديرات عالمية تشير إلى أكثر من 100 ألف، لم تعد المقابر الرسمية في كلّ مدن القطاع تتّسع للمزيد، الأمر الذي جعل خيار دفن الشهيد في قبر أحد أفراد عائلته أو إقامة قبر جديد فوق ذاك القديم أمراً لا بدّ منه.
وعلى الرغم من حصول عائلة الشهيد هيثم محمود الزنط على إذن أحد أقاربها لفتح قبر والده من أجل دفن الشهيد بجواره، فإنّ عملية الاستدلال على القبر القديم في مقبرة الشيخ رضوان غربي مدينة غزة تطلّبت أكثر من ساعتَين من البحث بين القبور، بحسب ما يخبر عمّ الشهيد "العربي الجديد". يضيف أنّ أفراد العائلة تقسّموا في مجموعات وراحوا يتنقّلون من جهة إلى أخرى بحثاً عن ذلك القبر، وقد زاد الأمر صعوبة تعرُّض محيط المقبرة للقصف الذي أدّى إلى تدمير شواهد كثيرة.
ويوضح العمّ أنّ شبّان العائلة عملوا، لمدّة نصف ساعة، بأدوات بدائية، على تكسير حجارة القبر القديم وفتحه مع اقتراب حلول المغرب، يوم السبت الماضي، فيما كان أفراد آخرون ينتظرون الانتهاء من تجهيز مكان الدفن في مركبة خارج المقبرة ومعهم جثة الشهيد. ويؤكد عمّ الشهيد الزنط، قائلاً: "رحنا نبحث من بعد العصر عن قبر قريبنا، فآثار القصف والردم لم تسمح لنا بمعرفة مكانه" بسرعة، لافتاً إلى أنّه "حتى الأموات يلاحقهم الاحتلال". ويتابع: "لا يوجد متّسع هنا لدفن جثث إضافية، بالتالي صار الحلّ الوحيد دفن الشهداء فوق الأقارب. وقد لجأت إلى الأمر نفسه عندما استشهد أخي قبل ثلاثة أشهر؛ دفنته فوق قبر والدي"، واصفاً الأمر بأنّه "معاناة صعبة".
ويكمل العمّ، قائلاً إنّ العائلة لم تتمكّن من الوصول إلى أيّ مقبرة أخرى، سواء في شرق مدينة غزة أو في محافظة شمال غزة بسبب انتشار قوات الاحتلال ووقوع المقابر الرسمية من ضمن نطاق ما يُطلق عليه اسم "مناطق عسكرية". وكان الزنط قد استشهد في أثناء انتظاره شاحنات الطحين على الطريق الساحلي في شمال قطاع غزة، عندما تعرّض منتظرو المساعدات لقصف إسرائيلي عنيف من المدفعية والزوارق، الأمر الذي أدّى إلى استشهاد نحو 12 شاباً وإصابة العشرات بجروح. ويلفت عمّه إلى أنّ "الشهيد كان معيل أسرته، وعمد على مدى ثلاثة أيام إلى التوجّه إلى نقاط مرور شاحنات الطحين على أمل العودة بكيس طحين".
في ناحية أخرى من مقبرة الشيخ رضوان غربي مدينة غزة، كانت آية علي تقرأ الفاتحة، إلى جانب فتاتَين، عند قبر والدة خطيبها التي توفيت يوم الجمعة الماضي بسكتة قلبية، علماً أنّها دُفنت إلى جانب متوفيَين سابقَين. وتشير علي لـ"العربي الجديد" إلى أنّ خطيبها كان يأمل إيجاد مكان آخر لدفن والدته، إذ "لم يرُقه أن تُدفَن بهذه الطريقة". تضيف أنّه "يلوم نفسه" على ذلك، كأنّه يشعر بالذنب.
وفي حال عثور عائلة ما على مساحة مناسبة لدفن شهيدها، فإنّها ستجد نفسها في مواجهة معاناة أخرى؛ توفير الحجارة والأسمنت والبلاط اللازمة لإغلاق القبر. وفي ظلّ شلل قطاع البناء وتدميره، يستعين كثيرون ببدائل من الرخام أو ألواح الزينكو. والد الشهيد حسن عبد الله أبو خلف من بين الذين عانوا في هذا السياق. ويحكي لـ"العربي الجديد"، في خلال زيارة قبر ابنه، أنّه "استشهد عندما كان الاحتلال قد عزل منطقة شمال قطاع غزة عن الجنوب، لذا دفنته في قبر مؤقّت بمدينة دير البلح وسط القطاع. وبعد عودة النازحين، نقلته ودفنته في جوار قبر عمّه بمقبرة الشيخ رضوان".
من جهته، يخبر شقيق الشهيد إبراهيم حاتم أبو ذر، الذي سقط في مجزرة الطحين التي وقعت يوم السبت الماضي، "العربي الجديد"، قائلاً: "لم أعرف من أين أتدبّر 1500 شيكل (نحو 450 دولاراً أميركياً) لشراء قبر، فعمدت العائلة إلى دفن الشهيد مؤقّتاً في حفرة استحدثناها وغطّيناها بلوح من الزينكو إلى حين تحسّن الأوضاع المادية".
وتؤخّر عملية البحث عن قبور مراسم الدفن، وفي بعض الحالات تبقى جثث الشهداء ملقاة على الأرض في أكفان بثلاجات الموتى إلى حين العثور على قبر مناسب. ويحكي والد الشهيد محمد الخطيب كيف اضطرّوا إلى "الانتظار لمدّة ساعتَين حتى تمكّنّا من إيجاد قبر. وفي خلال هذه الفترة، ظلّت جثّته على الأرض في مجمع الشفاء الطبي بمدينة غزة، حيث الإمكانات محدودة بسبب تدمير الاحتلال هذا المستشفى".
ووسط غياب الرقابة، رصدت "العربي الجديد" فوضى في عمليات الدفن، من خلال تعدّي ما صار يُعرَف بـ"عصابات المقابر" على حرمة القبور القديمة عبر تكسيرها وطمرها بالرمل لتجهيز قبور جديدة من أجل دفن الموتى، من بينهم الشهداء، في مقابل مبالغ مالية قاربت 400 دولار للقبر الواحد.
وفي خلال فترة التصعيد والعمليات العسكرية، لم يستطع الأهالي الوصول إلى المقابر الرسمية بمدينة غزة لوجودها شرقي المدينة، وفي وقت لاحق توالى إنشاء المقابر حتى زاد عددها على 120 مقبرة جماعية، لتتحوّل إلى ظاهرة انتشرت في الأحياء السكنية وأفنية المنازل والطرقات وصالات الأفراح والملاعب الرياضية وساحات المستشفيات والمدارس والمساجد والأراضي الزراعية، وحتى مفترقات الطرقات العامة.
في سياق متصل، عمدت عائلة الشهيد هاني يوسف أبو سمعان إلى دفن قدمَي ابنها اللتَين بُترتا قبل استشهاده إلى جانب قبر والده، ثمّ دفنت بقيّة أجزاء جسده في قبر آخر. يقول ابن عمه يوسف لـ"العربي الجديد" إنّ "الوضع في مقبرة الشيخ رضوان صعب جداً. ربّما هي المكان الوحيد الذي يستقبل الشهداء في الوقت الراهن، لكنّها ممتلئة منذ زمن، لذا يُضطر الناس إلى دفن موتاهم في قبور موتى قضوا في أوقات سابقة، من أجل التغلّب على هذه المشكلة، خصوصاً أنّ من غير الممكن الوصول إلى مقبرة الشهداء في شرق المدينة لانتشار قوات الاحتلال هناك".
ويحكي أبو سمعان أنّ "ابن عمّي أُصيب بقصف إسرائيلي، مغرب يوم الخميس في 12 يونيو/ حزيران الماضي، عندما توجّه لإحضار هاتفه من نقطة شحن. فقد تعرّضت النقطة لقصف عندما وصل إليها، واستوجبت إصابته بتر قدمَيه. فعمدت مع شقيقه إلى دفنهما في جانب قبر والدهما، وأحكمنا إغلاق القبر حتى لا تنهشهما الكلاب الضالة. وعندما ذهبنا للاطمئنان عليه، وجدناه وقد لفظ أنفاسه الأخيرة". يضيف: "لكنّ إيجاد قبر لدفنه في مقبرة مكتظّة لم يكن سهلاً بالنسبة إلى العائلة؛ لجهة التكلفة الباهظة للحصول على قبر وعدم توفّر مساحات لذلك". وقد فتّشت العائلة، بمساعدة حفّاري قبور، عن أيّ مكان فارغ لدفنه، وتمكّنت من ذلك في النهاية، إنّما بشقّ الأنفس. ويشير أبو سمعان إلى أنّه "بصراحة، لم نتأكّد من تلك المساحة، إن كانت قبراً قديماً أو لا. نحن، عائلة شهيد، أكثر ما يعنينا هو دفن الميت".
ومنذ بداية الحرب الأخيرة على قطاع غزة في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023، تعرّضت نحو 90% من مقابر القطاع للاعتداء والتجريف من قبل قوات الاحتلال، فيما يتعذّر على الأهالي الوصول إلى المقابر الرسمية، خصوصاً في شمال القطاع. ففي "مقبرة الشهداء" الرئيسية الواقعة شرقي مدينة غزة، الدفن غير ممكن بسبب العملية العسكرية، على الرغم من توفّر مساحة كبيرة لذلك. كذلك ثمّة مقبرة تمتدّ على مساحة 100 دونم بالقرب من معبر "بيت حانون" (إيرز) في أقصى شمال شرق قطاع غزة، لكنّ الأهالي غير قادرين على دفن موتاهم، بمن في ذلك الشهداء، فيها. هذا ما يوضحه عضو لجنة إدارة الجثامين، التي تضمّ وزارة الأوقاف والشؤون الدينية ووزارة الصحة وجهاز الدفاع المدني واللجنة الدولية للصليب الأحمر، زياد عبيد لـ"العربي الجديد".
ويقول عبيد إنّ "المقابر المتبقية في قطاع غزة ممتلئة، ويضطر الأهالي إلى دفن موتاهم فوق قبور قديمة، من خلال نبش القبور ودفن الجثث الجديدة فوق تلك القديمة". يضيف أنّ "لجنة الجثامين، التي تضمّ جهات دولية مثل الصليب الأحمر، تبحث من فترة عن أراضٍ فارغة في قطاع غزة (عموماً) وشماله، لكنّ ذلك لم يتحقّق حتى اللحظة". ويشرح أنّ "اللجنة الدولية للصليب الأحمر حصلت على تنسيق للدفن في مقبرة تقع بمنطقة السلاطين في محافظة شمال غزة، وستُنقَل جثث الشهداء المدفونين في ساحات المستشفيات والأراضي الخاصة إليها، وكذلك الجثث مجهولة الهوية".
ويؤكد عبيد أن "لا أمكنة متوفّرة للدفن في مدينة غزة، في الوقت الراهن، بسبب العمليات العسكرية وامتلاء المقابر الداخلية فيها، الأمر الذي يدفع عدداً من المنتفعين إلى نبش القبور القديمة وبيعها لأهالي الشهداء والموتى الذين توفوا أخيراً"، مبيّناً أنّ ذلك "مخالف للنظام، لأنّ القبور مجانية في الأساس". وعن دور لجنة الجثامين في منع نبش القبور، يوضح أن "لا دور لها في ذلك، لأنّ الفلتان هو العنوان الأبرز في الوقت الراهن، علماً أنّ المعنيّين كانوا يُلاحَقون في السابق"، مضيفاً أن "لا خيارات أمام عائلات الشهداء سوى نبش قبور أقربائهم والدفن فوق الجثث مثلما هي الحال في مقبرة الشيخ رضوان، وهي مقبرة ممتلئة منذ ما قبل الحرب". ويردف بأنّ "اللجنة تحاول إيجاد مساحة في الأراضي الشرقية لشارع 8 جنوب شرقي مدينة غزة من أجل تنسيق الدفن فيها، لكنّها لم تتمكّن من ذلك حتى الآن".
أما في جنوب قطاع غزة ووسطه، فيبيّن عضو لجنة إدارة الجثامين أنّ "الأهالي يدفنون الشهداء في مقبرة النمساوي الواقعة في محافظة خانيونس جنوبي مجمّع ناصر الطبي. لكنّ مستجدّات العملية العسكرية في مدينة خانيونس قد تمنع الدفن مؤقتاً". ويلفت عبيد إلى "تبرّع أحد المواطنين بقطعة أرض بمساحة 14 دونماً وسط محافظة دير البلح (وسط قطاع غزة) ستخصّص لدفن الشهداء من محافظتَي خانيونس ودير البلح، إذ ستحفر اللجنة الدولية للصليب الأحمر ألف قبر فيها".

Related News

