في مرحلة من مسيرتي المهنية، عايشت عن قرب ما يُعرف بإعياء المانحين، ليس بوصفه مفهوماً نظرياً في أوراق بحثية أو رطانة مؤتمرات، بل واقعاً ثقيلاً يزحف بصمت ويُهدّد أركان أيّ قضية مُحقّة. هذا الإعياء لا يصيب فقط الأفراد، بل يمتدّ ليشمل المؤسسات والدول، ويبدأ غالباً بعد سنواتٍ من الدعم المستمر والنداءات المتكرّرة، حين تبدأ الحماسة بالفتور، والالتزام بالتراجع، والتعاطف بالاختفاء ولو من دون إعلان. رأيت كيف تنطفئ العيون التي التهبت حماسةً في البدايات، وكيف تتقلّص الموازنات، وكيف يتحوّل الدعم السياسي والمالي إلى مجرّد صمت بارد، وكأنّ المعاناة توقفت لمجرّد أننا توقفنا عن النظر إليها.
في حالة الأفراد، كان التعب دائماً مزدوجاً، يجمع بين الإرهاق المادي والعاطفي. فمشاهد المعاناة الإنسانية المتكرّرة، وصور المآسي التي لا تنتهي من الموت والدمار، تخلق لدى الكثيرين نوعاً من الإنهاك الوجداني، يدفعهم لاشعورياً للانسحاب. ليس بالضرورة لأن قلوبهم قد قست، بل لأنهم مجرّد بشر، وقدرتهم على التحمّل لها حدود. يتابعون الأخبار، يتبرعون، يشاركون، يكتبون، ثم تتراكم المشاهد، وتتكرّر النداءات، فيغلبهم الإحساس بالعجز، فيبتعدون. لربما آلية دفاع نفسي فردي، لكنها قاسية في أثرها الجماعي، حيث إنها تترك الضحايا بلا صوت ولا حتى صدى.
أما على مستوى المؤسسات والدول، فالإعياء يأخذ شكلاً مختلفاً، مغلّفاً بكلماتٍ دبلوماسية وذرائع سياسية. في لحظات التحوّل الجيوسياسي، تتبدّل الأولويات، ويُعاد ترتيب المصالح، وتُقصى القضايا العادلة إلى الهوامش. ومن تجربتي، فإنّ أكثر ما يثير الغثيان هو نفاق بعض الحكومات الغربية التي تتشدّق يومياً بحقوق الإنسان، بينما تموّل القتل وتحاصر المظلومين، وتبرّر حتى الإبادة. رأيت كيف يُخفض التمويل فجأة، من دون شرح، وكيف تُغلق الأبواب أمام المساعدات، بينما يزداد عدد الجوعى والنازحين والضحايا. يحدث هذا بصمتٍ مُخيف، وكأننا بتنا نعتبر الكارثة قدراً لا مفرّ منه.
في لحظات التحوّل الجيوسياسي، تتبدّل الأولويات، ويُعاد ترتيب المصالح، وتُقصى القضايا العادلة إلى الهوامش
منذ أن اندلع عدوان الاحتلال على غزّة، برعاية أميركية ودعمٍ فَجٍّ، لم أتوقّع في أسوأ كوابيسي أن يطول الأمر ويصل الظلم إلى ما وصل إليه، ولكنني كنت أعلم أنّ الأمر لو طال فإنّ التعب الدولي سيتسلّل سريعاً، وأنّ وهج التضامن سينطفئ تدريجياً، حتى قبل أن تجفّ الدماء. بالنسبة لي، لربما كنت أكثر استعداداً لهذه الخيبة، لأنني عايشتها من قبل. أما بالنسبة لكثيرين حول العالم ممن كانوا مدفوعين بالعاطفة الإنسانية والواجب الأخلاقي، فخرجوا إلى الشوارع، تبرّعوا، صرخوا، تضامنوا، لكنهم لم يدركوا كم هو طويلٌ ليل هذه المجازر، وكم ستكون ثقيلة هذه المأساة. ومع مرور الوقت، خفت بعض أصواتهم، وغاب كثير من صورهم، بينما الموت لم يتوقف، بل تسارع. وعلى الرغم من انحسار الدعم في بعض المناطق والمجتمعات، أرفع القبعة لملايين حول العالم ممن ما زالوا رابضين على الجبل، مدافعين عن حقّ الضحايا وصادحين بأصواتهم التي يحاول الاحتلال وحلفاؤه الغربيون إسكاتها.
ووسط هذا الانحسار في الدعم والاهتمام، يظلّ الضحايا وحدهم في الميدان. في غزّة، يسري الأب فجراً باحثاً عن كيس طحين، لا يدري أسيعود به إلى أطفاله أم يُغتال في الطريق؟ فيُحمل على الأكتاف المُنهكة شهيداً آخر في طابور طويل لا نستطيع رؤية نهايته. هذه ليست استعارة، بل واقع يومي نعيشه ونراه، حتى أصبح القتل منظّماً، والجوع مُهندساً، والمساعدات نفسها فخاً يُنصبه الاحتلال وحلفاؤه للناجين. وإذا كانت هذه المأساة صعبة على المتابعين من بعيد، فكيف بمن يعايشها؟ كيف بمن يرى أطفاله يُقتلون كلّ يوم، ولا يجد حوله إلا جدران الصمت الدولي تحاصره فوق حصار الاحتلال وقصفه؟
لا نعلم إلى أين يتجه العالم في ظلّ الحروب وصعود النزعات الاستعمارية؟ لكن ما نعلمه هو أنّ التراجع عن التضامن الآن هو جريمة مضاعفة. لأن المأساة لا تُمهل، ولا تنتظر أن نرتاح ونلتقط أنفاسنا. ولهذا، لا يجوز لنا، لا أفراداً ولا مؤسّسات ولا دولاً، أن نُذعن لهذا الإعياء. علينا أن نواجهه، أن نُقاومه، أن نُسميه باسمه، ثم نكسره بالفعل. بالاستمرار في التبرّع، والتطوّع، والاحتجاج، والكتابة، والحشد، والدفاع، والمقاطعة، والصراخ. علينا أن نُعيد تعريف التضامن لا فعلاً لحظياً بل التزاماً أخلاقياً لا ينتهي. لأنّ الضحايا في غزّة، في السودان، في كلّ مكان، لا يحتاجون فقط إلى صرخة موسمية، بل إلى من يرافقهم في رحلة الصمود، وفي إعادة بناء الحياة من الحطام.
لربما لا نستطيع تغيير العالم، ولكننا نستطيع أن نُبقي الأمل حياً، ولو ليوم واحدٍ آخر.
Related News

