
غالباً ما يتعاطى الإعلام مع الضاحية الجنوبية لبيروت بحذر، أو يقدّم عنها روايات ناقصة أو مغلوطة. خلال حرب الاحتلال الإسرائيلي على لبنان، كانت الضاحية الهدف الأبرز، وتصدّرت قائمة المناطق الأكثر تعرضاً للقصف. لكن خرائط التهديد الإسرائيلية الحمراء لم تكن تستهدف فقط مباني سكنية، بل كانت تشير أيضاً إلى منطقة تحمل إرثاً تاريخياً واجتماعياً غنياً، يجهله الكثيرون.
منذ انتهاء الحرب، يواصل الشاب علي زيتون (20 عاماً) توثيق الحياة اليومية في الضاحية الجنوبية لبيروت من خلال صفحة أنشأها على منصة إنستغرام باسم "تاريخ الضاحية الجنوبية" (History of Dahieh). جاءت هذه المبادرة بعد نزوحه من منزله في منطقة المريجة إلى إحدى بلدات جبل لبنان، حيث صُدم بكمّ الروايات المغلوطة التي تُروى عن الضاحية. من بين هذه السرديات: اعتبارها منطقة تحتلّها الطائفة الشيعية، أو تصويرها منطقةً تسودها الفوضى والسرقات، وتُختزل فقط بارتباطها بحزب الله، في تجاهل تامّ لتاريخها ومكوناتها الجغرافية والثقافية.
لا يمتلك الشاب علي زيتون معدّات تصوير احترافية، لكنه قرّر، بالإمكانات البسيطة، توثيق ذاكرة الضاحية الجنوبية لبيروت، متحدثاً عن أحيائها وتاريخها ومعالمها، بعضها يكاد يجهله حتى سكّان المنطقة أنفسهم. من تسمية الشوارع، إلى المنازل الأثرية في المريجة والغبيري، يحاول زيتون تسليط الضوء على ملامح مرحلة ذهبية من تاريخ الضاحية، مهددة اليوم بالنسيان.
ورغم أن تخصّصه الجامعي لا يمتّ بصلة إلى الإعلام أو العلوم الإنسانية، فهو يتابع دراسته في اختصاص علم الأشعة في الجامعة اللبنانية، فإنّ شغفه بالتاريخ والبحث فيه هو ما يقوده. يقول في حديثه إلى "العربي الجديد": "من لا تاريخ له، لا حاضر ولا مستقبل له". لطالما انشغل علي زيتون بالبحث في تاريخ بيروت، وقريته الجنوبية دير كيفا. لكن الحرب الأخيرة بدّلت أولوياته، فقرّر توجيه عدسته نحو الضاحية الجنوبية، موثّقاً أحياءها القديمة وشوارعها المنسية. بدأ يجوب مناطق المريجة، والمنشية، والغبيري، وسوق معوّض، مصوّراً معالمها ومبانيها، ومقابلاً كبار السن ليجمع منهم روايات شفوية ترفد محتواه. استعان بوثائقيات قليلة أرّخت للضاحية، وراجع كتباً ألّفها باحثون من أبناء المنطقة، ولجأ إلى أرشيف البلديات بحثاً عن مصادر موثوقة.
يقول زيتون إن "منطقة برج البراجنة، على سبيل المثال، كانت في الماضي محطةً للأمراء الشهابيين. كانت هذه المنطقة، كما سائر الضاحية، تابعة للإقطاع الإرسلاني، قبل أن تُلحَق عام 1770 بالإقطاع الشهابي. برج البراجنة هي مسقط رأس الأمير بشير الشهابي الكبير. حتى منتصف القرن العشرين، كانت هذه الأحياء لا تزال تشبه القرى الجبلية، إلى أن بدأت تشهد موجات تحوّل ديمغرافي وعمراني. وعام 1890، بدأ العديد من سكانها بالهجرة إلى أميركا اللاتينية بحثاً عن فرص حياة أفضل".
من المعالم التي يوليها زيتون اهتماماً خاصاً في توثيقه قلعة الشهابيين الواقعة قرب حرم الجامعة اللبنانية في الحدث، مشيراً "إلى أن هذه القلعة التاريخية، التي تعود إلى الحقبة الشهابية، تكاد تكون منسية، إذ تقع ضمن نطاق بلدية الحدث التي لا تبدي أي اهتمام فعلي بحمايتها أو ترميمها". تحيط بالقلعة مقاهٍ خاصة، ما يجعل الوصول إليها شبه مستحيل، ويمنع الزوّار من الاقتراب أو الدخول إليها. يقول زيتون إنه بعد نشره عدداً من الفيديوهات التوعوية عنها، تواصل معه بعض المتابعين الذين حاولوا زيارتها، لكنهم لم يتمكنوا من دخولها، مضيفاً: "على وزارة الثقافة تحمّل مسؤوليتها، والعمل على حماية القلعة، وترميمها، وتنظيم آلية تسمح للمواطنين بزيارتها بحريّة".
يسكن علي زيتون في حي يُعرف باسم بئر الضيعة في منطقة المريجة، وسُمّي كذلك نسبةً إلى نواعير المياه التي كانت تنتشر فيه، ويبلغ عمر بعض منازله أكثر من 200 عام. يشير زيتون إلى أن عدداً من سكان الضاحية يجهلون المعاني الأصلية لأسماء الأحياء والمناطق التي يعيشون فيها.
فعلى سبيل المثال، يروي أن اسم بئر العبد يعود إلى حادثة تاريخية، حين رفض أهالي قرية البرج دفع الإقطاع لأحد الأمراء الدروز، وقتلوا العبد الذي أرسله لتحصيل الجباية، ثم ألقوا بجثته في بئر ما زالت معروفة حتى اليوم. يؤكد زيتون أن للحقبة العثمانية بصمة واضحة في الضاحية، مشيراً إلى عمود المنشية في منطقة البرج، الذي أنشأه العثمانيون في إطار بناء منتزه عام لأهالي المنطقة، لتُعرف لاحقاً باسم المنشية. أما منطقة الأوزاعي، فيلفت إلى أنها كانت تضم منطقة المدوّرة، التي كانت معروفة بمعالمها الأثرية، لكنها هُدِمت، وشُيّدت أبنية عشوائية مكانها، ما شكّل ضياعاً لجزء مهم من الذاكرة العمرانية للمنطقة.
من خلال متابعته وبحثه في الخرائط والوثائق، يشير زيتون إلى أن الضاحية الجنوبية لبيروت لا تقتصر على المناطق المعروفة تقليدياً، مثل برج البراجنة والغبيري والمريجة، بل تشمل أيضاً كفرشيما، ودير قوبل، وبعبدا، والحدث، وخلدة، والناعمة، وعين الرمانة، وفقاً لما نشره على صفحته على "إنستغرام".
يوضح أن بلدية الحدث، التي تشكّل نحو 65% من مساحة الضاحية الجنوبية، لا تقدم خدمات فعلية لسكان الضاحية الذين يعيشون ضمن نطاقها، مكتفية بتحصيل المستحقات البلدية، في ظل التجاذبات السياسية والطائفية التي تطغى على العمل البلدي في هذه المنطقة.
لم يكن علي زيتون يتوقّع هذا التفاعل الكبير مع منشوراته وفيديوهاته على "إنستغرام". يقول إن "الناس متعطّشين لمعرفة تاريخ منطقة وُصِمت طويلاً بالفوضى والسرقة". يشير إلى أن المشهد العمراني الحالي للضاحية الجنوبية ما هو إلا نتيجة مباشرة لموجات التهجير التي طاولت أبناء الطائفة الشيعية خلال الحرب الأهلية، لا سيما من المناطق المسيحية، وصولاً إلى موجات النزوح الكبرى خلال فترة الاحتلال الإسرائيلي للجنوب والاعتداءات المتكررة على البقاع الغربي وقراه منذ الثمانينيات وحتى عام 2000.
يسعى زيتون إلى تطوير محتواه ليصبح أقرب من سكان الضاحية وتاريخهم الاجتماعي، لكنه يواجه تحديات مادية وتقنية، في ظل غياب الموارد اللازمة. ورغم ذلك، يأمل في التعاون مع بعض البلديات التي تبدي اهتماماً بإبراز التاريخ الحقيقي للضاحية، بطريقة لم يُسلَّط عليها الضوء من قبل في الإعلام اللبناني.

Related News

