نبوءة الخزّان
Arab
1 week ago
share

اغتال عملاء الموساد الكاتب الفلسطينيّ غسّان كنفاني في 8 يوليو/ تموز 1972. نزل من الشقة واستقلّ السيارة هو ولميس ابنة أخته، وما إن أدار المحرّك حتى تطايرت الأشلاء في كلّ اتجاه. كانت لميس في التاسعة عشرة، وكان غسان في السادسة والثلاثين. وحين تَكُونُ قريباً من إنسانيّتك تستحضر غيابه قريباً ممّا يحدُث، فتحسّ بأنّه يحدُث توّاً، وبأنّه جزء من طاحونة "قنص" الفلسطينيّين المعتاد.

اعتاد كاتبُ هذه السطور عند كلّ صائفة، أن يضرب لقارئه موعداً مع شخصيّاتٍ وأعمالٍ فكريّة وأدبيّة وفنيّة، في نوعٍ من الفسحة الصيفيّة. وإنّ من الطبيعيّ أن يدعوك بين يدي هذه الذكرى الدامية إلى استحضار هذا الكاتب العملاق الذي أهدته فلسطين إلى الأدب العربيّ والإنساني، وأن يحثّك على العودة إلى نصوصٍ له كثيرة، تهزّك حيويّتها وتوهّجها، وتبهرك قدرتها الاستعارية وطاقتها المتجدّدة على الإحاطة بكثير من ملامح واقعك الراهن المستعصي على كلّ توصيف، وخصوصاً رائعتيه: "رجال في الشمس" (1963) و"ما تبقّى لكم" (1966).

والحقّ أنّ كاتب هذه السطور مدينٌ بكثيرٍ ممّا عرفه عن هذا الكاتب، للعزيز الراحل رشاد أبو شاور، الذي كان له خلال إقامة الفلسطينيّين في تونس، مجلس شبه أسبوعيّ في واحد من مقاهي المنار، ضاحية العاصمة التونسيّة. ومرّة في السنة، في مثل هذا اليوم، كان المجلس يتحوّل إلى احتفاء خاصّ بذكرى "المعلّم"، كما كان أبو شاور يسمّيه. وكم كان يستعيد طفولته وهو يعيد على مجالسيه حكاية اكتشافهِ الرسّامَ قبل أن يكتشف الكاتب، حين كان تلميذاً في الصفّ التاسع، وقيل له إنّ الرسوم المحفورة في الخشب والمعلّقة على مدخل الصفّ، هي لمدرّس مهاجرٍ اسمُه غسّان كنفاني.

يصوّر غسان كنفاني في "رجال في الشمس" مأساة رجالٍ يُشبهونك. أبو قيس وأسعد ومروان يريدون الهجرة إلى أحلامهم ويركضون خلفَها. يَعِدُهم أبو الخيزران بتهريبهم داخل شاحنةٍ ذات صهريجٍ أو خزّان لنقل الماء. يَضعُ الرجالُ الثلاثةُ حياتهم بين يدي قائدهم، لكنّه بين سوء الحظ وسوء التدبير لا يفتح لهم باب الخزّان إلا وهم جثثٌ هامدة. استعارةٌ بليغة ظنّ كنفاني أنه صوّر بها واقعاً عابراً، فإذا هي نبوءةٌ تقول لحظةً لا تنفكّ تتكرّر، من الماء إلى الماء، بكل ما يكتنفها من أسباب التفاؤل والتشاؤم، وكأنّك لا تكاد تغادر خزّاناً إلا إلى آخر، على الرغم من كلّ المحاولات والأحلام والأوهام.

رافق غسّان كنفاني جِيلَ الكبار من مناضلي القضيّة الفلسطينية، وتولّى مهمّة الناطق الرسميّ باسم الجبهة الشعبيّة، من دون أن يمنعه ذلك من ممارسة نشاط ثقافيّ يكاد يعجز عنه المتفرّغون. كتب القصّة والرواية والمسرح وقصص الأطفال والمقالة السياسيّة والفكريّة والسيناريو، ومارس الرسم، وأشرف على منابر صحافيّة. عاش ثائراً، وصوّر في أعماله المهمّشين والمقهورين الذين تخفق قلوبهم للحريّة. وكثيراً ما حذّر "من وقت تصبح فيه الخيانة وجهة نظر". كان يرى أنّ الإبداع الفنّي الحقيقيّ يتمثّل بالقدرة على "قول الشيء العميق ببساطة". وظلّت سماتُ الإنسان واضحة في كل ما ترك. بل لعلّ الموت أسبغ عليه هالة أسطوريّة كادت تصرف الأنظار عن أدبه. هو الذي كان يُقاوم مثلما يتنفّس، ويناضل من أجل حريّةٍ لا تباع، ويقرأ الأحداث بعمق وتبصّر، ويحلم بشعب يفتح الخزّان بنفسه.

بعد اغتيال غسّان كنفاني، قالت الصهيونيّة غولدا مائير: "اليوم تخلّصنا من لواء فكريٍّ مُسلّح". وممّا قاله محمود درويش في رثائه: "انفجر الموت فيك لأنك تحمله منذ أكثر من عشرين سنة ولا تسمح له بالولادة. اكتمل الآن بك واكتملت به. ونحن حملناكم ـ أنت والوطن والموت ـ حملناكم في كيس ووضعناكم في جنازة رديئة الأناشيد. ولم نعرف من نرثي منكم. فالكل قابل للرثاء. وكنا قد أسلمنا أنفسنا للموت الطبيعي. ـ أيها الفلسطينيون، احذروا الموت الطبيعي! هذه هي اللغة الوحيدة التي عثرنا عليها بين أشلاء غسّان كنفاني. ـ ويا أيها الكتّاب، ارفعوا أقلامكم عن دمه المتعدّد! هذه هي الصيحة الوحيدة التي يقولها صمتُه الفاصل بين وداع المنفى ولقاء الوطن. لا يكون الفلسطيني فلسطينيّاً إلا في حضرة الموت. قولوا للرجال المقيمين في الشمس أن يترجّلوا ويعودوا من رحلتهم، لأن غسّان كنفاني يبعثر أشلاءه ويتكامل...".

Related News

( Yemeni Windows) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

All rights reserved 2025 © Yemeni Windows