
يبدو أن الحرب على غزّة تكاد تضع أوزارها، لكن هذا لا يعني نهاية طغيان المحتلين وعبثهم بالأرواح والممتلكات وكل ما يملكه الفلسطينيون. وآخر هذه الفظائع اصطياد الجائعين الذين أغراهم البحث عن قليلٍ من المؤونة لدى مصيدة مؤسّسة غزّة الإنسانية، حيث اعترف عسكريون وضبّاط لصحيفة هآرتس العبرية المعارضة، وتحدّثوا عن أوامر صدرت بإطلاق الرصاص على المدنيين عشوائيّاً. كذلك أكدت صحيفة معاريف تجاوب القيادة السياسية للكيان مع اقتراح الطيارين، خلال الحرب مع إيران، إفراغ الحمولة الزائدة من القنابل على غزّة خلال عودتهم من رحلة الموت. هؤلاء الذين يرتكبون هذه الجرائم وغيرها هم الطرف المقابل الذي سيجري التفاوض معهم من أجل إنهاء الحرب؟
تعب الجميع من هذه الحرب القذرة، بمن في ذلك حلفاء إسرائيل، باستثناء نتنياهو وحلفائه الذين يصرّون على الاستمرار حتى تحقيق أهدافهم، وفي مقدّمتها إقامة "دولتهم" على جميع مساحة فلسطين. لهذا اعترض سموتريتش على الذين يطالبون بإطلاق سراح المحتجزين الإسرائيليين، وأجابهم بأن "الدولة قبل الأسرى". ويقصد التخلي عنهم إن لزم الأمر في هذا المنعطف الحاسم مقابل السيطرة على بقية "الأرض الموعودة". لهذا يعمل مع بن غفير على إفشال المبادرة الأميركية الجديدة والعمل على إجهاضها لاستكمال تحقيق "الحلم الكبير".
ما حصل ويحصل في داخل الكيان الصهيوني أن ميزان القوى حالياً هو بصدد التغيّر الملحوظ والسريع لصالح أقصى اليمين اليهودي، ما يعود إلى عاملين: أولهما تغلغل الأصولية الدينية المتوحشة والمعادية للحداثة الغربية. ويتمثل الثاني بتسارع وتيرة الهجرة العكسية نحو أميركا وأوروبا. والأغلبية الساحقة من هؤلاء الذين اختاروا الفرار ينتسبون إلى النخبة العلمانية التي تربت وفق الأنماط الغربية، وأدركت أنها تحوّلت إلى رهينة يتحكّم في مصيرها هؤلاء المتعصّبون والفاشيون. ويكتسب هذا الانقلاب السياسي والأيديولوجي والديمغرافي خطورة متزايدة على مستقبل الصراع الفلسطيني الصهيوني. فبالرغم من أن الصهاينة عموماً هم أعداء طبيعيون للشعب الفلسطيني، بحكم أنهم محتلّون للأرض، إلا أن التيار العلماني أو غالبيته لا يتبنّى مشروع السيطرة الكاملة على فلسطين. ومن جهة أخرى، يقرّ بقواعد المنظومة الدولية القائمة، سواء إيماناً منه بذلك أو مناورة بحكم الخضوع لسياسة المراحل. ونظراً إلى الاختلال الديمغرافي المشار إليه، ستكون الانتخابات المقبلة لصالح القوى الفاشية الدينية، وهو ما سيترتّب عنه تصاعد حدّة الصدام بين هذه القوى المتوحشة والفلسطينيين في المناطق التي لا يزالون فيها.
الصراع الفلسطيني مرشّحٌ للاستمرار فترات مفتوحة. وستبقى القوة والهيمنة عمادي السياسات الإسرائيلية، بقطع النظر عن نتائج المفاوضات التي تجري حالياً، وبقطع النظر أيضاً عن نتائج الانتخابات البرلمانية المقبلة. لهذا تعمل جميع الأطراف على تحجيم المقاومة من خلال سحب سلاحها، بحجة أن ذلك "سيضمن" استقراراً داخل فلسطين وفي الدول المحيطة بها. وهو وهم لا ينتج منه إلا مزيد من الضعف والتراجع أكثر فأكثر.
من المهم الإقرار بأن الطرف الذي يجري التفاوض معه حالياً تمثله "حماس" بكونها جزءاً من بقية الفصائل المسلّحة. وهذا، في حد ذاته، دليل على فشل نتنياهو في تحقيق أهدافه، رغم الكلفة البشرية الهائلة التي دفعها الفلسطينيون في هذه الحرب الضروس. والمطلوب حالياً تعزيز هذا الصمود، حتى يتمكن المفاوض الفلسطيني من تحويل الهدنة المؤقتة إلى نهاية للحرب. بعد ذلك، توفير المساعدات التي من شأنها تأمين الحد الأدنى من ضروريات الحياة داخل غزّة وفي الضفة الغربية، وإعادة ترتيب أوضاع ما بعد الحرب.
المعضلة الكبرى التي ستواجه الفلسطينيين تتمثل بمن سيتولى إدارة الشأن السياسي والإداري والأمني بعد توقف القتال، فللحرب شروطها وآلياتها، لكن المرحلة التي تعقبها تحتاج فريقاً يكون قادراً على أن يملأ الفراغ، ويكسب ثقة المواطنين، ويُحسن التخطيط، ويحقّق التوافق الأدنى، ويحمي الوحدة الوطنية، ويحافظ بالخصوص على ما حققه المقاتل في أثناء المواجهة. هنا التحدّي الأكبر.
