
كتبت قبل أكثر من سبع سنوات عن الاحتفاظ بحق الدهشة إزاء حديقة "كريستين بوش" في كيب تاون، متحدثاً عن الثراء والجمال ودقة التنظيم في الحديقة التي تشغل 36 هكتاراً على سفح جبل الطاولة، وتضمّ 7000 نوع نباتي. كان الزهو يملأني حينها لأننا نمتلك حديقة نباتية في وسط العاصمة السودانية الخرطوم، أقل مساحة، بيد أنها من أقدم الحدائق في أفريقيا والعالم العربي، إذ أنشئت في عام 1954، وعملت طوال عقود على حفظ الموارد الوراثية النباتية، مثلما كانت مستودعاً للجينات، ومركز أبحاث يوفر المعلومات والنماذج النباتية للباحثين والهواة، إلى جانب المتعة لعشاق الطبيعة الذين يغشونها بغية الاستراحة من التلوث والضوضاء.
كنا نحُج إلى الحديقة كل عام لأيام عدة، إذ درجت جمعية فلاحة البساتين السودانية على إقامة معرض سنوي للزهور، يؤمّه المتخصصون والطلاب، والمبدعون في مختلف المجالات، ومحبّو الطبيعة، حيث تعرض المشاتل منتجاتها، وتُقام جلسات المؤانسة البيئية والندوات المتخصصة، والعروض الفنية ذات الطابع البيئي.
لكن. حين يموت كل ما هو جميل، سيشغلك السؤال عن مآل الحديقة، وما اعتراها على مدى أكثر من عامين من عبث الحرب. ويا لهول ما نُقل إلينا، فالحديقة التي عُدّت موقعاً بيئياً محورياً في الحزام النباتي الأفريقي لاحتضانها أنواعاً لا توجد إلا في جيوب بيئية محددة، طاولها الدمار الواسع عطشاً وإهمالاً، ويُقدّر التلف بأكثر من 90%.
يقول المستشار البيئي وخبير الغابات السوداني طلعت دفع الله: "احتضنت الحديقة النباتية منذ نشأتها تشكيلة واسعة من النباتات جُمعت من مختلف أقاليم السودان المناخية، من السافانا الغنية والفقيرة إلى المناطق الصحراوية، وشملت هذه المجموعات أنواعاً محلية عديدة من الأشجار والشجيرات والنباتات العشبية والأزهار، ما وفّر مخزوناً وراثيّاً لأهم نباتات الأخشاب وأشجار الظل والزينة".
لم تقتصر الحديقة ومشاتلها على الأشجار المحلية، مثل الأبنوس الأفريقي، والماهوغني، والسنط، والطلح، والأشجار النادرة كشجرة المرفعين، والصندل، بل ضمّت أشجاراً أخرى من مختلف البيئات.
ورغم قيمتها العلمية والتاريخية، واجهت الحديقة النباتية سلسلة من المشكلات والتحديات، إذ عانت من التجاهل الرسمي وتوقف أعمال الصيانة والتطوير، كما تراجعت قوة العمل المؤهلة في الحديقة، كمّاً ونوعاً، فانخفض عدد الأشجار المزروعة من نحو 650 صنفاً إلى نحو 269 شجرة فقط في السنوات الأخيرة. وجاءت الحرب لتقضي على ما تبقّى فيها، تأكيداً للآثار المدمرة للحروب على البيئة.
فهل نتمكّن من استعادة مستودع الجينات النباتية بعد استعادة السلام؟
(متخصص في شؤون البيئة)

Related News
