صوت من الهامش: هل يستطيع التابع أن يتكلم
Arab
1 week ago
share

في عالمٍ تتشابك فيه خيوط القوّة والمعرفة، يبرز مقال غاياتري شاكرافورتي سبيفاك (هل يستطيع التابع أن يتكلّم؟) كصيحة مدوية، لا تزال ترنّ في أروقة الفكر النقدي بعد عقود من صدورها.

هذا المقال، الذي نُشر لأوّل مرّة عام 1988، ضمن كتاب "الماركسية وتفسير الثقافة"، ليس مجرّد نصّ أكاديمي، بل هو دعوة جريئة لإعادة النظر في كيفيّة إنتاج المعرفة، ومن يملك الحق في التحدّث باسم الآخر، خاصة أولئك الذين يقعون على هامش السرديات المُهيمنة. 

سبيفاك بأسلوبها الفلسفي العميق ولغتها المعقّدة أحياناً، تُفكّك آليات الصمت والإقصاء التي يتعرّض لها "التابع"، وهو مصطلح يشير إلى الفئات المهمّشة التي لا تملك تمثيلاً أو صوتاً في الخطابات السائدة.

إنّ سؤال سبيفاك المُحوري ليس مجرّد استفهام بلاغي، بل هو تحدٍّ مباشر للمفاهيم التقليدية للسلطة والمعرفة والتمثيل. هي لا تسأل عمّا إذا كان التابع يمتلك القدرة البيولوجية على إصدار الأصوات، بل عمّا إذا كان يمتلك القدرة على التعبير عن ذاته بطريقة يتم فهمها والاعتراف بها ضمن الأطر المعرفية المهيمنة. هذا المقال، الذي يُعدّ حجر الزاوية في دراسات ما بعد الاستعمار والنظرية النقدية النسوية، يدعونا إلى التفكير بعمق في مسؤوليتنا كمنتجي معرفة ومستهلكيها، وكيف يمكننا أن نكون من دون قصد متواطئين في استمرار آليات الصمت والإقصاء.

التابع: مفهوم ملتبس وواقع معقّد

إنّ مفهوم "التابع" الذي تناولته سبيفاك، ليس مجرّد تعريف أكاديمي، بل هو نافذة على واقع معقّد، حيث تتلاشى الأصوات وتُطمس الهُويّات. استلهمت سبيفاك هذا المصطلح من غرامشي، الذي استخدمه لوصف الفئات الاجتماعية الخاضعة والمهمّشة. لكنها لم تكتفِ بذلك بل وسّعت دلالته ليشمل كلّ من حُرم من القدرة على التعبير عن ذاته ومعاناته بلغة يفهمها العالم المُهيمن ويعترف بها.

التابع ليس كياناً سلبياً ينتظر من يمنحه صوتاً، بل هو نتاج لعمليات قمع معرفي واستعماري متجذّرة. سبيفاك لا تراه ضحية صامتة، بل كيان يُحرم من القدرة على التعبير عن ذاته بسبب هياكل القوّة والمعرفة التي تفرضها الخطابات السائدة. لذا، فإنّ سؤال "هل يستطيع التابع أن يتكلّم؟" يتجاوز القدرة الفردية على النطق، ليُلامس إمكانية وجود فضاء حقيقي يسمح للتابع بالتعبير عن ذاته من دون تشويه أو استيعاب ضمن الأطر الغربية.

التابع ليس كياناً سلبياً ينتظر من يمنحه صوتاً، بل هو نتاج لعمليات قمع معرفي واستعماري متجذرة

لقد انتقدت سبيفاك بشدّة ما أسمته "الرغبة الغربية في الذاتية"، وهي نزعة المثقف الغربي لتمثيل الآخر وتفسير تجربته، من دون أن يدرك أنه بذلك قد يكرّس آليات الاستعمار. إنّ أي محاولة خارجية لإعطاء صوت للتابع قد تؤدي إلى ترسيخ تبعيته بدلاً من تحريره. هذا النقد يمتدّ ليشمل حتى بعض تيارات دراسات ما بعد الاستعمار التي، رغم نواياها النبيلة، قد تقع في فخّ تمثيل الآخر بطريقة تعزّز من هيمنة الخطاب الغربي.

نقد التمثيل والعنف المعرفي

من أبرز إسهامات سبيفاك في مقالها، نقدها العميق لمفهوم (التمثيل) وتركيزها على ما أطلقت عليه (العنف المعرفي). لقد ميّزت سبيفاك ببراعة بين نوعين من التمثيل: التمثيل السياسي، الذي يعني التحدّث باسم فرد أو جماعة، والتمثيل الفني أو الفلسفي، الذي يشير إلى إعادة تقديم أو تصوير شيء ما.

ترى سبيفاك أنّ المثقفين الغربيين، وحتى بعض المثقفين من العالم الثالث، غالباً ما يقعون في فخ التمثيل السياسي للتابع، مدّعين أنهم يتحدثون باسمه أو يمنحونه صوتاً. لكن هذا التمثيل، في نظرها، غالباً ما يكون مشوباً بـالعنف المعرفي، وهو شكل من أشكال العنف لا يتجلّى في القوّة الجسدية، بل في فرض أطر معرفية غربية على تجارب الآخرين، مما يؤدي إلى طمس أصواتهم وتشويه واقعهم. يتجلّى هذا العنف المعرفي عندما تُفسّر تجارب التابع من خلال عدسة غربية، أو عندما يُستوعب صوته ضمن مفاهيم ومصطلحات لا تعكس واقعه المعقّد.

عندما يُحرم التابع من لغته الخاصة، أو عندما تُفرض عليه لغة أخرى، فإنه يُحرم من القدرة على التعبير عن ذاته بطريقة أصيلة

تستشهد سبيفاك بمثال "الساتي"، وهي ممارسة هندوسية قديمة كانت تقوم فيها الأرملة بحرق نفسها على محرقة زوجها المُتوفى. تحلّل سبيفاك كيف أنّ إلغاء هذه الممارسة من قبل البريطانيين، رغم أنه قد يبدو عملاً إنسانياً، كان في جوهره عملاً استعمارياً يعكس منظوراً استعمارياً يسعى إلى إنقاذ النساء المحليات من رجال مجتمعاتهن. هي لا تدافع عن ممارسة "الساتي"، بل تنتقد الطريقة التي تمّ بها تمثيل هذه الممارسة وتفسيرها من المستعمرين، وكيف أنّ صوت المرأة التي كانت تمارس "الساتي"، سواء باختيارها أو تحت الإكراه، قد تمّ إقصاؤه تمامًا من السردية المهيمنة. في هذا السياق يصبح التابع، أي المرأة التي تمارس "الساتي" غير قادر على التعبير عن تجربتها المعقّدة، ويتم استيعابها ضمن سردية استعمارية تخدم مصالح المستعمر.

تحديات الترجمة والتأويل

تولي سبيفاك اهتماماً خاصاً لتحديات الترجمة والتأويل في سياق (صوت التابع). هي ترى أنّ الترجمة ليست مجرّد عملية نقل للكلمات من لغة إلى أخرى، بل هي عملية معقّدة تنطوي على نقل للمفاهيم الثقافية والمعرفية. في هذا السياق، يمكن أن تكون الترجمة شكلاً من أشكال العنف المعرفي، خاصة عندما يتم ترجمة تجارب التابع إلى لغة غربية، مما قد يؤدي إلى تشويه المعنى الأصلي وإقصاء الفروق الدقيقة.

اللغة ليست مجرّد أداة للتواصل، بل هي بنية تشكّل الواقع وتحدّد إمكانيات التعبير

تجادل سبيفاك بأن اللغة ليست مجرّد أداة للتواصل، بل هي بنية تشكّل الواقع وتحدّد إمكانيات التعبير. عندما يُحرم التابع من لغته الخاصة، أو عندما تُفرض عليه لغة أخرى، فإنه يُحرم من القدرة على التعبير عن ذاته بطريقة أصيلة. هذا التحدي يبرز أهمية الوعي بالحدود المعرفية واللغوية عند محاولة فهم تجارب الآخرين، وضرورة تجاوز الأطر الغربية التي قد تعيق الفهم الحقيقي.

إرث سبيفاك: دعوة إلى اليقظة النقدية

إنّ مقال سبيفاك ليس مجرّد نقد للخطابات الاستعمارية، بل هو أيضاً دعوة إلى بناء أشكال جديدة من التضامن والتحالف، تتجاوز الحدود التقليدية للتمثيل. هي تشجعنا على البحث عن طرق لتمكين أصوات التابع، ليس من خلال التحدّث باسمهم، بل من خلال خلق مساحات تسمح لهم بالتعبير عن ذواتهم بلغتهم الخاصة وبشروطهم الخاصة. هذا يتطلّب منا أن نكون مستعدين للتخلّي عن امتيازاتنا المعرفية، وأن نستمع بصدق إلى الأصوات التي طالما تمّ إقصاؤها.

في الختام، يظل مقالّ غاياتري سبيفاك (هل يستطيع التابع أن يتكلم؟) نصاً أساسياً لأي شخص مهتم بدراسات ما بعد الاستعمار، النظرية النسوية، أو الفلسفة النقدية. إنه تذكير دائم بأنّ المعرفة ليست محايدة، وأنّ السلطة غالباً ما تتخفّى في أشكال غير مرئية. إنّ سؤال سبيفاك ليس مجرّد سؤال، بل هو دعوة إلى العمل، دعوة إلى التفكير النقدي، ودعوة إلى بناء عالم أكثر عدلاً وإنصافاً، إذ يمكن لكلّ صوت أن يجد طريقه إلى الوجود.

Related News

( Yemeni Windows) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

All rights reserved 2025 © Yemeni Windows