نيوترونات لبنان
Arab
1 week ago
share

لم يكن لبنان، منذ استقلال 1943، على هذا القدر من الوقوف على حافّة التحوّلات فيه، بغياب راعٍ إقليمي أو دولي. دائماً ما كانت تعصف به الأعاصير بوجود جهة خارجية داعمة لطرف محلّي، مستغلةً، في الوقت نفسه، غياب الوحدة الداخلية. تكرّر الأمر في الحرب الأهلية المصغّرة في 1958، وفي الحرب الكُبرى بين عامي 1975 و1990، وفي العدوان الإسرائيلي أخيراً على لبنان. في تلك الحروب كلّها، وحافزها اجتماعي ـ طائفي ـ طبقي، سمّوها ما شئتم، كانت الطائفة المتقدّمة على سواها، ترفض الخضوع لحوار داخلي فعلي لا شكلي، ما سمح بتوغّل الأطراف الخارجية، ودعمها أطرافاً داخلية. وتعود هذه الخاصية إلى القرن التاسع عشر، بالحروب التي دارت رَحاها بين الموارنة والدروز. وأياً كان مُطلق الرصاصة الأولى في تلك الحروب، فإن اللبنانيين يكونون الطرف الذي لا يصنع سلاماً داخلياً بإرادة داخلية، بل يستند إلى خارج لفعل ذلك. الدروز والموارنة والسنّة نالوا نصيبهم. لم يشاؤوا، كلّ من موقعه، إشراك الطوائف الأخرى في السلطة، بل دائماً ما سعوا إلى الظهور بمظهر "الطائفة الوصيّة" و"الطائفة القوية"، حتى تسقط تلك الطائفة من عليائها، في صورة حتمية في التاريخ اللبناني، ثمّ تبدي ندماً على أنها لم تُنصتْ لنصائح سابقة.

لا يتعلّق الأمر في لبنان بأكثرية ديمغرافية، ولا بقوة سياسية في النظام، ولا بالقدرة المالية على تحقيق السيطرة. في لبنان، التشابكات أشبه بتصادم نيوترونات، فتتناغم الطوائف ضمن تشابكات براغماتية، لكن يحدث أن تجنح إحداها فيحدث الانشطار النووي. ثمّ، لا يستقرّ الوضع سوى بعودة التصادم السلس. الأكثر أهميةً هنا، أنه خلال هذه التحوّلات، وإن تأثّرت طائفة بصورة دموية، إلا أنه مهما بلغ تأثّرها بتداعيات هذه التبدّلات، فإن إطاحتها خارج التاريخ والجغرافيا والنظام السياسي في لبنان أمر غير قابل للحدوث. يعود السبب إلى حاجة النيوترونات إلى بعضها بعضاً لصياغة ما يُمكن اعتباره هُويَّةً لبنانية إلى حدّ ما، قد يستخفّ بها كثيرون، لكنّها فعلياً موجودة بشكل مختلف عن الآخرين، بحسناتها وسيئاتها. ليس في ذلك عنصرية تمييزية ولا شوفينية، بل وصف لواقع موجود.

خسر المسيحيون والدروز والسنّة مواقع عدة في السلطة، لكنهم ظلّوا، بشكل أو بآخر، ولم يندثروا كياناً سياسياً، بل ينتظر بعضهم لحظة العودة بشروط موروثة من هزيمة الماضي، وغير ثأرية. كذلك الطائفة الشيعية، لن تندثر، ولا أحد ينتظرها على مفرق سياسي ولا قدرة لأي طرف حتى على إخراجها من أيّ معادلة سياسية في البلد، سواء شكّلت 99% من اللبنانيين أو 1% منهم. قدرها هنا قدر الباقين. في لبنان تجد مليون شخص يتمنّى الموت للآخر من غير طائفته، لكنّك لن تجد منهم من يريد فعل ذلك حرفياً. يحبّ اللبنانيون الكلام، وهم ناجحون في ذلك. أمّا بعد التفوّه بالخطب الرنّانة والشعبوية، فيتحوّل معظمهم كائناتٍ اجتماعيةً تحاول تمرير يومها بأقلّ قدر من التوتّر، وأكبر قدر من الترفيه.

لماذا ذلك كلّه؟... لأن الأيام المقبلة لن تكون سهلةً على لبنان، أيّاً كانت نتيجتها، لأنها ستُشكّل اختباراً جديداً لمدى قدرة هذا البلد على النجاة من التفكّك والاندثار. ومع أنه فعلها مرّات عدة في التاريخ الحديث، إلا أنها في كلّ مرّة تبدو المرّة الأولى لجيل أو لطائفة. الأكيد أنه في هذه الجبال وعند تلك الشطآن، تضاريس جغرافية، زُرع سكّان أصليون وهاربون ومنفيون ولاجئون، والساعون إلى الحرية عبر التاريخ، ويبقى هناك مجالٌ واسعٌ لحياة لبنانوية لجميع مواطني هذه البلاد. الأكثر أهميةً هو تقدير اللحظة، وفهم أن النجاة منها لا يعني التفكّك، بل وحدة بلد طالما شكّك كثيرون في وجوده وهُويَّته وثقافته، واستهزأوا به، حتى من دون فساده وتسوّله. خلال أيام سيكون لبنان أمام محطة يُفترض أن تُحصِّن وجوده، لا أن يبقى أسير الإفناء الذاتي.

Related News

( Yemeni Windows) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

All rights reserved 2025 © Yemeni Windows