رحيل مايكل مادسن... شغف تمثيل وبراعة اشتغالات أخرى خارج السينما
Arab
1 week ago
share

يُقال إنّ مايكل مادسن راغبٌ دائماً في أنْ يتذكّره الناس بشخصية غلن غرينوود، في "حرّروا ويلي" (Free Willy)، (1993)، لسيمون وينسر (هناك جزء تالٍ له بعنوان "المغامرة الرئيسية"، مُنجز عام 1995، لدوايت ليتل). لكنّ الحاصل فور إعلان نبأ وفاته (3 يوليو/ تموز 2025)، عن 68 عاماً (مواليد 25 سبتمبر/ أيلول 1957)، يتمثّل بعنوانين طاغِيَين: "مستودع الكلاب" (1991)، و"اقتل بل" (2003 و2004)، لكوينتين تارانتينو.

هذا مفهومٌ في مهنة الصحافة، التي تعتمد أساساً على الأكثر تداولاً وشهرة لدى الناس أنفسهم، الذين أراد مايكل مادسن أنْ يتذكّروه بغير هذا. علماً أنّ تصفّح الإنترنت يكشف أنّ الأفلام الأولى، المذكورة خارج "ويكيبيديا" وغيرها، مع ملصقاتها، تتمثّل بـ"مستودع الكلاب" و"اقتلْ بل" بجزئيه، ثم "حرّروا ويلي"، الآتي بعد فيلمين آخرين. أما المقارنة النقدية، فمكتفية بتفريق بسيط بين فيلمٍ عائلي وآخرَين محمّلَين بكمّ هائل من العنف والتمرّد والجنون، وبأسئلة مبطّنة عن العلاقات والذات والحبّ والوفاء والهوس. ذاك أنّ الأفلام المذكورة مشغولة بحِرفية مليئة بجماليات صورة وسرد، وبحكاياتٍ مستلّة من واقع واختبارات (ربما)، والاختبار غير مُلزَمٍ بأنْ يكون شخصياً (أقلّه بالنسبة إلى المخرج نفسه)، لأن الاختبارات موجودة، وعلى صانع فيلمٍ الاستفادة منها لتحقيق مبتغاه السينمائي.

في تلك الأفلام أيضاً، وهذه ميزة تجمع المهني بالحِرفة والإضافة الأدائية، يُقدِّم مايكل مادسن "المطلوب" منه إخراجياً، مع لمسةٍ (ولو قليلة) مما يمتلكه من براعة في تحويل ما يكتسبه من اشتغاله في كلّ فيلم، والاشتغال متنوّع الأساليب الإخراجية والدرامية والجمالية، إلى سمةٍ تُخرجه من الإطار الجماعي لكلّ فردٍ، مانحة إياه غالباً استقلالية، يتذكّرها من ينصرف بكلّيته إلى السينما وتفاصيلها. وإذْ يتقارب تاريخ إنتاج الفيلمين الأولين ("حرّروا ويلي" و"مستودع الكلاب")، يطغى صنيع تارانتينو على جماليات الفيلم العائلي، لأنّ الأخير محصورٌ في فئات محدّدة إجمالاً، بينما صنيع تارانتينو يكاد يُصيب كلّ فردٍ عاشق للسينما أولاً، وغارقٍ في جحيم الأرض ثانياً، ومأسور بالمعلّق في أسئلة الحياة والصداقة والمواجهة والتحدّيات النفسية والجسدية ثالثاً. والعنف، الذي يبرع تارانتينو في هندسة جمالياته، المستلّة من وقائع العيش اليومي في اجتماع معطوب، يُشارك مادسن في استكشاف معالمه وجوّانياته وأدواته، بما لديه من خصوصية أداء يستمدّها من ملامح وجهه، خاصة نظرات عينيه اللتين توهمان بتناقضات شتّى، مع أنّها تعكس شيئاً واحداً لدى صاحبهما. فالعينان شبه مغلقتان، ما يوحي بانكفاء ذاتي لتفكير أو لمشورة صامتة (أو ربما ازدراء وسخرية من الآخر الذي يقف أمامه)، وانحناء الوجه قليلاً إلى اليمين أو اليسار يؤكّد أنّ معرفة الخطوة اللاحقة لصاحبهما غير واضحةٍ لمن ينظر إليه، قبل أنْ يُحقِّق الخطوة، وتنكشف نتائج تفكير ومشورة وانكفاء.

يُمكن الاسترسال كثيراً في قراءة هذه الأفلام تحديداً. لكنّ لائحة شغله طويلة، وأفلام كثيرة أخرى تعكس شذرات فاعلة ومُضيئة وآسرة من تقنية أدائه، مع أنّ أدواراً عدّة تكاد تقول إنّ هناك تشابهاً في الأداء. التمعّن في بعض تلك الأدوار كفيلٌ بتبيان عدم تشابهٍ مطلق في تقديمها، وإنْ يتمسّك الممثل بحركةٍ أو نظرة أو نبرة أو انفعال في كلّ اشتغالاته، وهذا عادي.

هناك فرقٌ يتّضح تدريجياً مع قراءة لائحة أفلامه، التي تبدأ عام 1983 بـ"ألعاب الحرب"، لجون بادهام: أيُمكن القول إنّ "براعة" تارانتينو في إنجاز أفلامٍ، لا بطولة فردية واحدة فيها (البطولة الفردية مندمجة كلّياً في البطولة الجماعية)، سببٌ لإظهار مايكل مادسن في واجهة المشهد مع زملاء وزميلات يكونون جميعهم في الواجهة نفسها؟ أفلامٌ عدّة يُشارك مادسن في "بطولتها"، من دون أنْ يكون الأول وحده، تكاد "تسقط" من ذاكرةٍ فردية (المُشاهِد/ المُشاهِدة)، وجماعية (الصحافة والنقد السينمائيان، غالباً). مع أنّ لبعض تلك الأفلام شهرة جماهيرية كبيرة. أمثلةٌ على ذلك؟ "الأبواب" (The Doors)، لأوليفر ستون، و"تيلما ولويز" لريدلي سكوت (الفيلمان إنتاج 1991). "وايت إيرب" (1994)، للورنس كاسدان، و"صُنف" (Species)، لروجر دونالدسن (1995)، و"شلالات مولهولاند" (Mulholland Falls)، لِلي تاماهوري (1996)، و"دوني براسكو" (1997)، لمايك نيوويل.

هذا غير محسوم. التنويع التمثيلي في أدواره، كحال ممثلين وممثلات كثيرين، يكشف أنّ لمادسن جمالية حضور رغم ما يُمكن لشخصه، أي لشكله الجسدي، أنْ يُثيره من ارتياب وقلق. "أيُعقل" للبارع في أفلام تارانتينو أنْ يكون كوميدياً، أو عالم فضاء، أو محقِّقاً يُشارك في البحث عن كائنات غريبة تغزو الكرة الأرضية (بل أميركا)؟ أيكون هذا الممثل، مع اختلاف الأدوار والشخصيات والأنواع السينمائية (والتلفزيونية)، حاضرٌ بوفرةٍ في اشتغالات فنية أخرى، أبرزها "أشرطة فيديو موسيقية" و"ألعاب فيديو" ووثائقيات؟ إضافة إلى كتابته الشعر، وتأليفه كتاباً عنه (مذكّرات أو ما يُشبه السيرة الذاتية)؟

لن يكون مادسن وحيداً في هذا، لأنّ ممثلين وممثلات (عاملين/ عاملات في مهن سينمائية مختلفة)، كثيرين، في أميركا وأوروبا ودول شرق وغرب (هذا غير منطبق على العرب إلّا نادراً)، يختارون مهناً أخرى، هوايةً أو حِرفة: كتابة، تصميم أزياء وأحذية، ابتكار عطور، صُنع نبيذ، تأليف وعزف موسيقيان، إلخ. أسباب ذلك مختلفة، لكنّها غير مهمّة. أيكون شغف مادسن في غير السينما رغبةً في اختبارات أدائية وتأليفية، تمنحه شيئاً من صفاء وراحة، غير عاثر عليهما في السينما؟ أمْ أنّ اشتغالاته في التأليف والأشرطة الموسيقية والألعاب إضافات مهنية بحتة؟

Related News

( Yemeni Windows) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

All rights reserved 2025 © Yemeni Windows