
منذ الأشهر الأولى من العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، توجهت الأنظار صوب بركة "الشيخ رضوان" في شمال مدينة غزة، مع تحذيرات من كارثة بيئية محقّقة في حال عدم معالجة تلوّثها بمياه الصرف الصحي.
بعدما كانت "بركة الشيخ رضوان" في مدينة غزة تُخصَّص لجمع مياه الأمطار، تحوّلت بعد السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023 إلى قنبلة صحية وبيئية موقوتة بعد تسرّب مياه الصرف الصحي إليها، نتيجة تدمير الاحتلال الإسرائيلي البنية التحتية في القطاع. واليوم، تتفاقم المشكلة بعدما اضطرّ نازحون فلسطينيون إلى نصب خيامهم عند أطرافها، ليكونوا في قلب "المكرهة الصحية".
وتصبّ المياه العادمة غير المعالَجة من أحياء مدينة غزة في البركة الواقعة شمالي المدينة، فيما تنتشر حولها عشرات خيام النازحين الفارين من القصف الإسرائيلي على منطقة جباليا البلد القريبة. وفي حين يهرب هؤلاء من الموت الذي يسبّبه القصف، فإنّهم يعرّضون أنفسهم لموت آخر في نطاق بركة "الشيخ رضوان". فإلى جانب تشكيل البركة تهديداً للأطفال بالغرق في حال انزلاقهم، فإنّها تمثّل بؤرة أمراض خطرة، علماً أنّ الحشرات تنتشر في المكان إلى جانب انبعاث الروائح الكريهة.
محمد النجار من بين هؤلاء الذين لجأوا مع عائلاتهم إلى محيط بركة "الشيخ رضوان"، إذ لم يجد موقعاً آخر يستقرّ فيه خلال نزوحه الأخير. نصب محمد خيمته في الجهة الجنوبية للبركة قبل أيام فقط، لكنّ تلك المدّة القصيرة كانت كفيلة بجعل اثنَين من أطفاله يُصابان بأمراض تنتقل عن طريق مياه الصرف الصحي، من بينها العدوى التي تُعرَف شعبياً باسم "دودة الأنيميا".
يقول النجار لـ"العربي الجديد": "لو وجدت مكاناً آخر، فإنّني لم أكن لآتي إلى هنا. والآن، بعد إصابة طفلَي بهذا الداء، سوف أحاول البحث عن مكان بديل أنصب فيه خيمتنا. لم أكن أتوقّع أن يكون المكان هنا خطراً إلى هذه الدرجة. كلّ شيء سيّئ؛ الرائحة كريهة والبعوض والذباب ينغّصان الحياة ويسلباننا الراحة والنوم، ونحن في حالة قلق طوال الوقت، ونراقب الأطفال خوفاً من سقوط أحدهم داخل البركة، ونحاول الحرص على عدم خروجهم من الخيمة، وهذه معاناة إضافية".
عند الساعة العاشرة صباحاً، يتنقّل أطفال بين خيام "الشيخ رضوان"، وهم يحملون دلاء وغالونات فارغة بحثاً عن مياه للشرب. وقد تجمّع عدد منهم أمام صنبور مياه مخصّص للاستهلاك المنزلي، مُدّ خطّه من داخل البركة. أمّا النساء، فكنّ يجهزن وجبات غداء عائلاتهنّ على الحطب، فيما الروائح الكريهة تحاصرهنّ.
ومنذ بدء موجات النزوح في قطاع غزة، راحت خيام النازحين تُنصَب في محيط بركة "الشيخ رضوان"، ومع قلّة الأماكن الشاغرة وتكرار موجات النزوح، تحوّل الرصيف الشرقي للبركة، والذي يبلغ عرضه نحو خمسين متراً، إلى بقعة تضمّ عشرات الخيام. كذلك، نصب آخرون خيامهم على الرصيف الجنوبي، رغم أنّه أقلّ عرضاً.
لجأت فاتن دردونة مع عائلتها إلى هذه النقطة قبل شهر، وتقول لـ"العربي الجديد": "وجودنا هنا يمثّل صدمة كبيرة، فنحن نعيش في أسوأ بؤرة على مستوى قطاع غزة. لدينا أطفال ومسنّون ومرضى، وكلهم أصيبوا بنزلات معوية، وأخيراً أُصيب أطفالنا بمرض الجدري المعدي، ونخشى طوال الوقت لعبهم بالتراب الملوّث".
إلى جانب الروائح الكريهة المنبعثة من المياه العادمة التي تخنق النازحين الفلسطينيين في محيط بركة "الشيخ رضوان" أو حتى الأشخاص الذين يمرّون بالقرب منها، تزداد أوضاع النزوح قسوة بسبب قيام البعض بحرق خزانات المياه التالفة ومواد بلاستيكية، الأمر الذي يؤدّي إلى انبعاث الدخان.
وتؤكّد دردونة أنّ الدخان "معاناة إضافية نعيشها. لدينا مرضى مصابون بالتهابات رئوية، وأحيانا يبدأ حرق البلاستيك بعد منتصف الليل فيحاصرنا الدخان المنبعث والروائح الكريهة والبعوض".
قبل سبع سنوات، كان المهندس الفلسطيني المتقاعد محمد زياد، يعمل في قسم المياه ببلدية جباليا البلد، ورغم أنّه يدرك جيداً خطورة الواقع، لكنّه لم يجد بديلاً آخر عن بركة "الشيخ رضوان". ويقول لـ"العربي الجديد": "نعيش وسط كارثة صحية، فهذه المياه العادمة أرض خصبة للبعوض الذي ينقل الأمراض، وثمّة حشرات وأفاعٍ، كأنّنا نعيش في غابة. ربّما كانت الغابة أفضل حالاً لوجود أشجار فيها". ويلفت إلى أنّ "لا علاجات تتوفّر لأيّ إصابة بأيّ مرض". وعن محاولاته البحث عن مكان بديل، يبدأ زياد بتعداد الأماكن التي قصدها لهذه الغاية قبل التوجّه إلى البركة. ويخبر: "ذهبنا إلى شاطئ البحر فوجدناه ممتلئاً. بحثنا في الشوارع والحدائق، لم نجد مساحة فارغة لنصب خيمة. لا يوجد بديل، وهذه البركة أسوأ ما وجدنا؛ نعيش في خطر الطفح والغرق والروائح الكريهة، فضلاً عن الوضع المعيشي الصعب".
عند حافة رصيف البركة، كانت الطفلة ديمة السلطان (13 سنة) تغسل أواني والدتها. وتطلّ مباشرة على المياه العادمة، فيما تغطّي حبوب صغيرة وجهها، وتشير إلى "حساسية" ظهرت فجأة نتيجة العيش في هذا المكان، وتشكو من أسراب البعوض التي تهاجم الخيمة في الليل، فيما تقف شقيقتها ليان (4 سنوات)، عند باب الخيمة، علماً أنّ المسافة بين المياه والخيمة لا تزيد عن خمسة أمتار.
يقول الوالد عوض السلطان لـ"العربي الجديد": "نحن ستّة أفراد نعيش داخل الخيمة. بالإضافة إلى الروائح الكريهة والبعوض، تزيد الكلاب الضالة الوضع سوءاً. فمع ساعات الليل، تحضر وتتنقّل بين الخيام بحثاً عن طعام، ويُضاف ذلك إلى القصف وأزيز الرصاص والصواريخ".
قبل أربعة أيام، أوشك الطفل عبد الرحمن دردونة البالغ من العمر أربعة أعوام على السقوط في داخل بركة "الشيخ رضوان"، لو لم يمسك به قريبه صالح في اللحظة الأخيرة. ويقول صالح لـ"العربي الجديد": "نزل عبد الرحمن من درج الرصيف وبدأ يتوجّه إلى المياه. ربّما لم يدرك خطورتها أو دفعه الفضول إلى الاقتراب منها، وقد تمكّنت من التقاطه فيما المياه لامسته".
استيقظت الشابة ريم دردونة من نومها، صباح 29 يونيو/ حزيران، على صوت ارتطام وألم في منطقة الفخذ لم تنتبه إلى طبيعته إلا عندما رأت بقعة من الدم. حصل ذلك بعد إطلاق مسيّرة إسرائيلية "كواد كابتر" النار في اتّجاه الخيام. تتصبّب الفتاة عرقاً في داخل الخيمة من شدّة الحرّ، لتتضاعف معاناتها. وتقول لـ"العربي الجديد" فيما تحاول والدتها التخفيف من شعورها بالحرّ: "بعد الرصاصة، بدأت أشعر بالدوار. ونقلوني إلى المستشفى وأجروا لي عملية جراحية سريعة وأغلقوا الجرح. لكن لعدم توفّر أسرّة كافية بسبب كثرة المصابين من ذوي الحالات الخطرة، أعادوني إلى الخيمة على الرغم من وجوب أن أبقى تحت الرعاية".
ويفيد مدير عام المياه والصرف الصحي في بلدية مدينة، غزة ماهر سالم، بأنّ بركة "الشيخ رضوان" هي في الأساس مكان لتجميع مياه الأمطار، لكن بسبب الحرب والدمار والأضرار التي لحقت بمحطات الضخّ والصرف الصحي تحوّلت إلى نقطة تجمّع لمياه الصرف الصحي غير المعالَجة، وهي اليوم تضمّ نحو 400 ألف متر مكعّب من المياه العادمة. ويحذّر من "خطورة العيش بالقرب من مياه عادمة تمثّل مصدراً للتلوث البيئي والصحي، وتؤدّي إلى تسارع وتيرة انتقال الأمراض، ولا سيّما مع نصب خيام في المكان".
وعن منسوب ارتفاع المياه العادمة، يوضح سالم لـ"العربي الجديد"، أنّ "آخر قراءات الرصد أظهرت أنّ منسوب المياه الحالي وصل إلى خمسة أمتار، وعندما يصل إلى مستوى سبعة أمتار و60 سنتيمتراً فإنّ المياه تطفح، خصوصاً من المنطقة الشرقية حيث أقام النازحون مخيّمهم". يضيف أنّ "منسوب المياه يرتفع يومياً 35 سنتيمتراً، وقد يبلغ مستوى خطراً في خلال أيام معدودة"، داعياً النازحين إلى "الابتعاد عن الخطر لحماية صحتهم ووقاية أنفسهم من الأمراض المنتشرة".
ويؤكد الطبيب مجدي ضهير، لـ"العربي الجديد"، أنّ "مياه الصرف الصحي تمثّل خطراً حقيقياً على المواطنين، وتؤثّر سلباً على صحة الناس الذين يعيشون في الجوار. يؤدّي ذلك إلى الإصابة بالإسهال من مختلف الأنواع، وبأمراض جلدية، إضافة إلى التيفوئيد والدوسنتاريا، والتي يسهل انتشارها بين النازحين نتيجة ضعف مناعتهم بسبب سوء التغذية. هذه الأمراض تؤثّر سلباً على صحتهم، وقد تؤدّي إلى الوفاة".
ويلفت ضهير إلى أنّه "خلال الحرب الإسرائيلية المتواصلة على قطاع غزة، رُصد فيروس شلل الأطفال في المياه العادمة، وجرى تحصين أكثر من 600 ألف طفل. تجمّع المياه الصرف الصحي قد يكون مصدراً خطراً للأمراض، ورغم خطورة بقاء النازحين في نطاق بركة الشيخ رضوان، فإنّ الكثير من هؤلاء مضطرون إلى ذلك في ظلّ عدم توفّر أماكن بديلة، وعليهم اتّباع التدابير الخاصة بالنظافة الشخصية".

Related News

