
تحكي روان ناصيف (1983)، المخرجة والإنثروبولوجية اللبنانية، في "المصيطبة، المكان المرتفع" (2025، 20 دقيقة)، عن المصيطبة، المنطقة البيروتية التي عاشت فيها سنوات الصبا، قبل مغادرتها إلى خارج البلد، وإليها تعود الآن.
تُحيل هذه المقدمة القصيرة إلى التفكير بعاديّة مقترح سينمائي، يُكرّره سينمائيون كثيرون، لبنانيون خاصة، يتناولون في أفلامهم جوانب من تجاربهم الشخصية، ويُعاينون شدّة صلتها بالعام الأوسع. لكنْ، هناك تَميّز متعمّد، ومثبت في المقدمة نفسها، له صلة بالاختصاص الأكاديمي لناصيف، وعلاقته بالأسلوب السينمائي الذي تتناول فيه المكان الذي عاشت فيه، وعادت إليه بعد أنْ تغيّر الكثير فيه، ولم يعد، لا المكان ولا هي، كما كانا عليه.
كلمة "تحكي" تناسب وصف الأسلوب السردي، الذي يتوالف مع حسّ إنثروبولوجي يرى المكان في بُعديه الشخصي والدلالي العام. النظرة الثانية المتفحّصة، بعد العودة إليه، تأتي عبر دهاليز الذاكرة، ومن النظرة "الجديدة" المتأمّلة للعالم الذي تحكي عنه بصيغتي الماضي والحاضر، ما يضفي عليه تعقيداً تتكشّف تشابكاته عبر علاقتها بالمصطيبة وتحوّلاتها. هذا كلّه أوحى إليها بطريقة عرض فيلمها على جدار حمّام شقة قديمة، ببناية سكنية في "بيت بيروت"، التي أضحت زمن الحرب الأهلية اللبنانية (1975 ـ 1990)، خطاً فاصلاً بين شرق بيروت وغربها. ولموقعها الاستراتيجي، اتّخذها القنّاصون مركزاً لهم.
اختيار العرض على جدار قديم مهترئ يدعو إلى التفكير في انفتاح السينما على أساليب سرد ملهمة، يصبح فيها العرض ـ الشاشة، كهذه المرة، جزءاً من نسيج النص السينمائي.
الصورة المعروضة وفق ذلك الاشتغال تبدو غامضة، ومتداخلة التفاصيل، جرّاء تداخل الجدار القديم وتشقّق سطوحه مع الصورة الأصلية. قِدَم البناية، وتداخل تفاصيل الشريط السينمائي مع أسطحها، يقاربان تداخلاً واختلاطاً حاصِلَين في الذاكرة لحظة استعادتها، بعد فراق طويل. الاشتغال الجمالى في "المصيطبة، المكان المرتفع" لا يعطي للشفاهي ـ الحكي السطوة المطلقة، رغم كثافة حضوره، لأنّ هناك توافقاً دقيقاً حاصلاً بينه وبين الاشتغال البصري المُقتصد.
الاثنان فيه يتلازمان بغموض، ويُعبّران معاً عن أحاسيس ناصيف وانفعالاتها، لحظة استعادة تاريخها الشخصي، وتاريخ البيت والمنطقة التي تأتي إليها اليوم لمراجعة جزء من تكوينها الشخصي فيها، ببساطة حضور يُجلي بوحاً بمشاعر دفينة، وبمفاتحة واعية للذات، واعتراف بحبّ للمكان المُعايَن برؤية شخصية ومعرفة، تجعلان من المصيطبة مساحة قابلة لمراجعة تاريخ أفراد وعائلة وبلد من منظور ذاتي، لا يدّعي أكثر من هذا.
رغم الإفصاح عن عدم رغبتها في العودة إلى أزمنة الذكريات المخبّأة، واعتبار "ذاكرة الطفولة الأسوأ بينها لأنها تمزّقنا"، تحكي روان ناصيف عن طفولتها التي أمضتها في بيروت، وعن تحوّلات المصطيبة. بحلاوةٍ، تصف شوارعها وأحياءها. تصف نفسها بالبيروتية، التي عاشت في حيّ السريان قبل هجرة أغلب سكّانه إلى السويد، في التسعينيات الفائتة. تحكي عن يساريّته ومَدنَيّته. تُفكّك معنى أنْ يتربّى المرء تربية بيروتية معاصرة، وأنْ تكون المصيطبة "ضيعة" يسارية مختلطة، في قلب المربّع اليساري في بيروت: "اتّحاد الشباب جيراننا. البيت القديم لكمال جنبلاط والاشتراكية على الزاوية. بيت المنقبة (صاحبة عرفات) تقيم في بناية عمي".
عن علاقتها بوالدها الصحافي، عضو منظمة العمل الشيوعي، ووالدتها قوية الحضور في الحيّ، تحكي بحنان لأنّ الجميع يذكرونهما بالطيبة. يؤلمها، كجميع الذين يعودون بعد طول غياب إلى أوطانهم، غياب من كانوا ينتظرون مقابلتهم. تؤلمها التغيّرات السياسية الحاصلة في المكان. فالمصيطبة تغيّرت، ولم تعد كما كانت. لم تشعر بفوارقها الطائفية في صباها. أكثر مسيحيّيها اليوم انتقلوا إلى مناطق ذات أغلبية من الطائفة نفسها. التغيّرات الديموغرافية الحاصلة فيها تزيد من إحساسها بتغيّر ذلك المكان القديم الذي عرفته. انقطاع التيار الكهربائي، وظلمة عتبات العمارة السكنية، يُذَكّرانها بالأيام المُتعبة في بيروت.
تأخذ الشرفة مساحة واسعة من ذاكرة الطفولة. بعين الإنثروبولوجية تعاينها، بوصفها "بوابة تطلّ منها على العالم". مساحة هجينة لا تنتمي إلى داخل الشقة، ولا إلى خارجها كلّياً. بين بين، مثلها الآن. فهي بين ماضٍ تتذكّره، ولحظة اغتراب، وصعوبة انتماء كامل إلى المكان الذي هجرته يوم كان عمرها 17 عاماً. حتى الشرفة لم تعد تطلّ على كلّ المدينة، كما في الماضي. اليوم، بسبب الزحام وارتفاع البنايات المقابلة لها، فَقَدت موقعها الجغرافي كنافذة على المدينة، وأفقها الرحب.
تشعر روان بالوحدة لغياب والديها. البيت موحش كبيروت. من دون أهلها، يعتري دواخلها الحزن، لأنها كانت تريد لفيلمها أنْ يحكي عنهم، وأنْ يُكرَّس لهم، لأنهم كانوا جزءاً من المصيطبة. أما وجودها فيها، فـ"رفع عتب" لا أكثر. تمزج في حكيها بين الذكريات واللحظة الحاضرة بسلاسة لافتة في كثافة تعابيرها وعمقها، بفعل رؤيتها المتفحّصة للمكان. ترى في تذكّرها تفاصيله تعويضاً عن نقص عاطفي عندها، وحسرة متأتية من إحساس بأنّها تحكي عن وقت لم تكن تشعر فيه بانتمائها إليه.
في فورة صباها، كانت تنتمي إلى ذاتها. تنظر إلى الابتعاد عن البيت والمصيطبة كخلاصٍ شخصي، ووعد بمستقبل أفضل لها. لن تشفع لها عودتها، وهي لن توهم نفسها بتعويض ممكن لخسارته. فما مضى لن يعود أبداً كما كان. ذلك الإحساس يتسرّب من ثنايا النص السينمائي، ما يجعله حميمياً ومؤثّراً، ويضعه على الأقل بين أجمل أفلام هذا العام، لأسلوب سرده الخاص للتحوّلات الدراماتيكية الحاصلة في المكان الذي أعادت صانعته وصوغه بمشاعرها الصادقة، وأقرنت كتابته بوعي عميق لوجودها في اللحظة الراهنة: امرأة مغتربة، حنينها إلى المصيطبة يُكرّس حزناً لا تستحي بالبوح به أمام الآخرين.

Related News
