المأزق المشترك للتوأمين إسرائيل وأميركا
Arab
1 week ago
share

تؤكّد مساعي السِّلم الترامبية الأخيرة الأثمان الباهظة المُحتمَلة لتطوّر الصراع الإقليمي الأخير بين إسرائيل وإيران إلى حرب أميركية إيرانية مكتملة الأركان؛ يمكن أن تكلّف أطرافها والمنطقة سنوات، إن لم يكن عقوداً، من الخسائر والآلام؛ بحسب مدى اتساع نطاق الحرب زماناً ومكاناً وأبعاداً، مهما اختلفت السيناريوهات الكثيرة حدّ الاستعصاء على الحصر، مع كثرة المتغيّرات المُتصلة بها، والأطراف المتماسّة معها، فضلاً عن جبهات التدافع وموضوعات النزاع التي يمكن أن يمتد إليها كلما تطاولت الحرب.

ولا تتعلّق خطورة الحرب فقط بتعقيداتها الميكروية والمباشرة، بما تحمله من تهديدات تراوح ما بين غرق كامل المنطقة في دوّامة عنف هائلة حال نجاح الولايات المتحدة وإسرائيل بتحقيق أهدافهما من الحرب، واحتمالات التسرّب الإشعاعي المُحتمل حال إصابة مواد نووية نشطة لدى أيّ من الطرفين، وأخيراً وليس آخراً، الاضطرار إلى حسم الصراع بأسلحة نووية، تكتيكية أو استراتيجية، ستكون كفيلة بإنهاء كامل شرعية النظام الدولي ومعاهدات منع الانتشار النووي، وانكسار الحاجز المعنوي لاستخدام تلك الأسلحة في النزاعات الأخرى، فضلاً عن الارتدادات الانتقامية المنطقية رداً على نوع كهذا من العدوان.

بل تتسع تعقيدات الحرب على مستويات أكثر ماكروية إلى توقيتها الحسّاس، وأول أبعاد ذلك التوقيت، الذي يمثّل الخلفية التاريخية للوضع كله، مما سبقت مناقشته في مواضع أخرى، هو الوضع السيّئ للاقتصاد العالمي الذي يعاني سكرات أزمة عالمية كامنة لم تُفصِح عن قواها الكاملة بعد، لكن تزكم رائحة بوادرها الركودية الأنوف، ويعرف الخبراء هول توقّعاتها التي لا تقل في أغلب التصوّرات عن أزمة بمقياس الأزمة الأكبر في تاريخ النظام الرأسمالي، أزمة الكساد العالمي الكبير في ثلاثينيات القرن الماضي، التي لم تنته إلا بحرب عالمية كانت بدورها الأكبر في التاريخ.

أما ثاني تلك الأبعاد وأخطرها، فهو تقاطع توقيت الحرب مع تدهور الوضع النسبي للهيمنة الأميركية -والغربية عمومًا- عالميًا، ودخولها ما وصفناه في مقال سابق بحالة الرمال المتحرّكة لتراجع الهيمنة، بما يعطيه ذلك من هوامش مناورة أوسع نسبيًا للقوى المتوسّطة في العالم، فضلاً عن القوى الكبرى، وعلى رأسها الصين، باعتبارها المنافس الصاعد بلا مواربة، بما يتضمّنه ذلك من تراجع لقدرة الولايات المتحدة على إدارة صراعاتها ومصالحها بمناطق العالم المختلفة بما يناسبها، بما فيها وعلى رأسها، أكثرها أهمية وتبعية في ذات الوقت، المنطقة العربية والشرق الأوسط.

فيما ثالث تلك الأبعاد، وأكثرها مباشرةً، تقاطعها مع أزمة الكيان الصهيوني بالمنطقة، وما حقّقته إيران من صدمة نوعية باستهداف حقيقي لعمقه الاستراتيجي شديد الضيق والوهن لأول مرة في تاريخه؛ بما يمثّل كسرًا لهيبته التي عمل على بنائها عبر سبعة عقود من وجوده الاستعماري بالمنطقة، فضلاً عن تخويف مستوطنيه وضرب سمعته -شرط نجاح المشروع الصهيوني- ملاذًا آمنًا لكل يهود العالم؛ ومن ثم تعزيز اتجاه الهجرة العكسية الذي بدأت بذوره منذ سنوات، وتفاقم بشكل خاص بعد عملية طوفان الأقصى والاضطرابات المتزايدة منذ ذلك الحين.

وبالبدء بالبُعد الأضيق، المُتعلق بالخصم الإقليمي المُباشر، يعيش الأخير مأزقًا ما بين واقعه الفعلي باعتباره كيانًا سياسيًا صغيرًا مُصطنعًا يعاني أزمة مشروعية مع كامل محيطه الإقليمي، وطموحه اليوتوبي المدعوم بالإمبريالية الغربية لأن يكون قوةً إقليمية كبرى يمكنها لعب دور شرطي المنطقة وحاكمها المُتوّج. وهو التناقض الذي ظل مخفيًا تحت ركام التخاذل والتفكّك العربي، وبفضل نجاحاته بالانفراد المتتابع بالدول العربية التي تهشّمت تحت طرقات العدوان الغربي والحروب الأهلية، ليأتي أول صدام محدود مع دولة كُبرى حقيقية ويكشف حقيقة القزم، الذي يعترف جميع القادة والمحللين الغربيين اليوم أنه قد اغترّ بقوته وخاض معركةً فوق طاقته. وهو ما تأكّد بلهاثه وراء طلب المساعدة الأميركية، والعدوان الترامبي غير القانوني يوم 22 يونيو/حزيران الماضي على المواقع النووية الإيرانية، حلًا لمخاوف إسرائيل وإنقاذًا لموقفها الهشّ بالحرب.

يواجه هذا الكيان مأزقًا اقتصاديًا وسياسيًا معقدًا. فمن جهة، يمثّل قبوله سلامًا دون انتصار نهائي على إيران ضربةً قوية لصورته الإقليمية وتدهورًا مطردًا في معادلة أمنه الداخلي وانهيارًا بالثقة طويلة الأجل بآفاقه المستقبلية، فيما يعني، من جهة أخرى، استمراره بالحرب دون حسم سريع، تدهورًا أسرع وأشد، فضلًا عن انهيار أكبر في موقفه الدولي، المجروح فعليًا بجرائمه في الأراضي المحتلة، والإبادة الجماعية المستمرة منذ أكثر من عام ونصف. وينتهي به الموقفان إلى تدهور اقتصادي مُزمن، يبدأ من إصابته بالميول الركودية المُعتادة باقتصادات العالم الثالث غير المُستقرة؛ بانخفاض مستويات الثقة الاستثمارية والائتمانية وتفاقم هجرة العقول والكفاءات وتزايد الأعباء المالية والضريبية، إلخ. في السيناريو الأول، وقد يصل إلى انزلاق إلى اقتصاد حرب غير مُستدام، يُجرّده إلى واقعه الحقيقي بوصفه مجرد قاعدة عسكرية تعتمد على الدعم الخارجي بالأساس، لا دولة حقيقية قابلة للاستمرار بقواها الذاتية، في السيناريو الثاني.

فما يحتاجه الكيان حصرًا، انتصار حاسم سريع لا يملك القدرة عليه، ولا يمكنه تحقيقه إلا بانخراط أميركي كامل في الحرب، يعني الضرورة حربًا إقليمية شاملة، وهو ما يقودنا إلى المأزق المشترك الذي تجرّ إسرائيل الولايات المتحدة إليه، والبعد الثاني الأوسع الذي تمثّله الحرب كتقاطع ما بين الولايات المتحدة الأميركية وكامل منطقة الشرق الأوسط.

في التقاطع الأوسط لتوقيت الحرب، مع الخصم العالمي، تعاني الولايات المتحدة مأزقًا يتعلّق بهيمنتها في منطقة الشرق الأوسط، حيث يمثّل الاستقلال السياسي للنظام الإيراني، المُجسَّد بتعزيزه المُتزايد لقواه العسكرية والتكنولوجية، خروجاً مُقلقاً عن الطوق الإمبريالي الذي لا تزال المنطقة ترزح تحته. وهو جزء من مأزق أكبر يتعلّق بمُجمل هيمنتها العالمية التي تتدهور بُناها التحتية بالتراجع الصناعي وتقلّص التفوّق التكنولوجي والعسكري والتأزّم المالي والنقدي وتراجع الثقة الاستثمارية وغيره؛ بشكل بدأت القوى الأخرى كافة تشتمه بوضوح وتعمل على أساسه، بل ويتجرّأ بعضها على استغلاله بوضوح مُتزايد.

وهكذا تواجه الولايات المُتحدة، ذات المأزق الإسرائيلي تقريباً، لكن على نطاق أضخم يشمل العالم كله، حيث إذا تسامحت الولايات المتحدة مع خروج قوى المنطقة العربية والشرق الأوسط، بأهميتها الحيوية طاقياً وتجارياً وملاحياً، عن طوقها الإمبريالي، فإنها تفقد المزيد من هيمنتها، ليس كمياً فقط -بشكل مباشر- بتزايد ضعفها في إحدى مناطق هيمنتها على العالم، بل كيفيًا -بشكل غير مباشر- بانعكاس ذلك الضعف في تلك المنطقة المهمة بشكل خاص على كامل هيمنتها وصورتها في المناطق الأخرى كافة؛ بحكم الارتباطات المُتبادلة بين جميع مناطق النظام العالمي أولاً ومكوّناته، وبحكم أثر المُضاعف التراكمي -شبه بالكينزي إن صحّ التعبير- لأي ضعف في منظومة الهيمنة على مُجمل قوتها ثانياً.

من جهة أخرى، إذا خاضت الولايات المتحدة حرباً شاملة لكسر تلك القوة وأشباهها في أي منطقة أخرى، فإنها تُخاطِر بالغرق في مستنقع جديد يشبه سوابقها في أفغانستان والعراق، بمقياس أضخم بكثير، في الوقت الذي تدهورت فيها قواها الاقتصادية، بل العسكرية، في رأي بعض المحللين. وإذا كانت الحرب الأميركية على أفغانستان قد كلّفتها حوالى 2.3 تريليون دولار، وتجاوزت تكلفتها في حرب العراق (ومعها الوجود في سورية) 2.9 تريليون دولار (حسب تقديرات معهد واطسون للشؤون العامة والدولية بجامعة براون الأميركية)، وهما الدولتان الأصغر والأضعف والأكثر تفكّكاً بكثير، فلنا أن نتخيّل كيف يمكن لمستنقع إيراني أن يفعل بالولايات المتحدة، وهي في وضع أضعف بكثير مما كانت عليه وقت الحربين السابقتين. فلا الولايات المتحدة اليوم هي نفسها في التسعينيات وأوائل الألفية، ولا إيران هي العراق أو أفغانستان، ولا أوضاع العالم وتوازناته بمُجمله اليوم هي نفسها وقتها!

وجزء من التغيّر بتوازنات العالم ليس فقط اختلاف الأوزان النسبية لقواه، وبداية تحوّل مراكز الهيمنة الاقتصادية والتفوّق التكنولوجي من الغرب إلى الشرق، بل كذلك ما يجلبه التطوّر الطبيعي والاجتماعي من تعقّد وتشابك مُتزايدين بالأنظمة عمومًا، مُتجلّيًا ذلك في حالة الاقتصاد العالمي بتزايد التشابك بين الدول والأسواق ورؤوس الأموال وغيره؛ بشكل يعقّد التلاعب الفردي بأيّ من مكوّنات النظام العالمي، دون خسائر وارتدادات مُؤثّرة ومتشعّبة على الأطراف كافة ذات الصلة، وحتى على تكوين النظام بمُجمله. وما فيض الحركات الجهادية والإرهابية والتداخلات والصراعات بين القوى الإقليمية التي أغرقت المنطقة العربية بعد الفراغ الذي نشأ عن سقوط النظام العراقي سوى نموذج مُصغَّر لما يمكن أن يحدث حال الصدام مع قوى أكبر وأخطر، وبما يؤكّد صعوبة بقاء أي نزاع كبير محصوراً لمدة طويلة بين طرفيه المباشرين في نظام عالمي معقّد ومتشابك كهذا.

يفسّر هذا التناقض والارتباك في التحرّكات الأميركية، كما ظهر بشكل واضح في ضربها المواقع النووية الإيرانية، ما بين الاستعراض العسكري والتكنولوجي بحجم الضربة ونوعيتها (المُقدَّر بحوالى 160 طناً من المتفجّرات بقنابل ضخمة فائقة التطوّر)، ومحدودية فاعليتها العملية والتأكيدات الأميركية الفورية بالخطابات المُعلنة والتواصل الدبلوماسي السري للرغبة في السلام وحلحلة الأمور سريعًا؛ لئلا تتسع وتخرج عن السيطرة. بل سماحها برد إيراني استهدف القواعد الأميركية بدول الخليج حفظًا لماء الوجه.

فقد أصبحت الولايات المتحدة أكثر ميلاً لنظام هيمنة أقل تكلفةً؛ لكونها لم تعد تتحمّل من جهة التكاليف المتزايدة لنظام هيمنة تنخفض كفاءته الحدّية بفعل التوزّع المتزايد في عوامل القوة في النظام الاقتصادي والسياسي العالمي، بما يعنيه من صعود قوى جديدة تنافس وتناور وتناوئ تلك الهيمنة، وتراجع العائدية الحدّية لذلك النظام من جهة أخرى؛ بتراجع ما يدرّه عليها من ريع إمبريالي؛ سواء بفعل الميول الركودية المُتزايدة على مستوى الاقتصاد العيني، أو المنافسة الصناعية والتجارية المُتزايدة عالميًا، أو تدهور الثقة بالدولار الأميركي كعملة سيولة وآلية تمويل دولية.

يفسّر هذا الفاشية العارية التي تزداد تجلّياتها في الوجه السياسي الأميركي، والتي تعكس الضعف أكثر مما تمثّل قوة. فرفع سقف التهديدات لا يعكس مجرد الطابع الاستعراضي النرجسي للمصارع الذي لم يستطع ترامب أن يكونه في الواقع، بل هو تعبير عن العجز الأميركي المتزايد عن حسم الأمور بسقف التحذيرات التقليدي وفوارق القوة القديمة، فضلاً عن فقدان الولايات المتحدة لنفوذها المعنوي دوليًا، وتخليها المُتزايد عن خطابها المؤسسي وشعاراتها الليبرالية؛ بشكل يتكامل منطقياً مع ميل متزايد للأساليب العنيفة السريعة في حسم الصراعات، مع تراجع قدرتها على الحسم بالطرائق والأدوات الناعمة الأخرى.

ولا ينفصل هذا الموقف الأميركي عن الموقف الأوسع للغرب بمُجمله، الذي نرى انحطاط مواقفه المتزايد في الدعم شبه الأعمى للكيان الصهيوني وفي مطالبته إيران المعتَدى عليها بضبط النفس، الأمر الذي لا ينطلق من مجرد تبعية سياسية وعسكرية للولايات المتحدة، بل يدفعه تشابه الوضع والاتجاهات؛ ما تظهر تجلّياته في صعود حركات الانغلاق القومي واليمين الشعبوي إلى الحكم في معظم دوله.

Related News

( Yemeni Windows) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

All rights reserved 2025 © Yemeni Windows