
يُنتظر أن تشهد الأكاديمية العسكرية المصرية خلال أيام تخريج دفعة جديدة من أعضاء النيابة العامة، الذين سيعملون في أجهزة السلطة القضائية في أنحاء مصر بعد ستة أشهر من التدريبات العسكرية المكثفة على استخدام السلاح والاصطفاف العسكري وممارسة الرياضات العنيفة التي تمكّن لاعبها من فض التظاهرات ومكافحة الشغب، ومحاضرات في الشؤون الحربية والأمن القومي. حفل التخريج الذي يتم الإعداد له سيشمل 400 شاب وفتاة اختيروا من قبل الأجهزة الأمنية ووزارة العدل للانضمام إلى السلك القضائي، فيما تكرار المشهد يعكس تحوّلاً لافتاً في فلسفة الدولة تجاه إعداد الكوادر المدنية للوظائف العامة، التي شملت المدرّسين في المدارس والجامعات والدعاة في المساجد والموظفين العموميين في الدواوين الحكومية.
مدنيون يتخرجون من الأكاديمية العسكرية المصرية
وينتظر أن يشارك الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في مراسم تخرج الدفعة التي تخص معاوني النيابة العامة، ممن خضعوا لدورة تأهيلية عسكرية في الأكاديمية العسكرية التي يحاضر بها قادة عسكريون وأمنيون، قبل تسلّمهم مهامهم القضائية. ويحظى الخريجون بمتابعة شخصية من رئيس الدولة ودعم إعلامي واسع، تزيد كثافته مع احتفالات رسمية تظلل أجواء مناسبة 3 يوليو/ تموز حيث يجري التسويق لدولة "مصر الجديدة"، التي يراها خبراء تسير بالنظام المدني نحو "عسكرة الوظائف المدنية".
يُعد تدريب معاوني النيابة العامة داخل منشأة عسكرية، سابقة نوعية في العلاقة بين المؤسستين القضائية والعسكرية
ويُعد تدريب معاوني النيابة العامة - قضاة المستقبل - داخل منشأة عسكرية، سابقة نوعية في العلاقة بين المؤسستين القضائية والعسكرية، إذ يعيد طرح تساؤلات حول حدود الفصل بين السلطات واستقلال القضاء، خصوصاً في ظل تأكيد مسؤولين أن التدريب تضمّن جوانب تتعلق بالانضباط والوعي الأمني إلى جانب الجوانب النظرية. ويحذر خبراء القانون الدستوري من أن هذا التوجه قد ينعكس سلباً على حياد القضاة واستقلاليتهم، إذ يتلقون تأهيلاً في مؤسسة تتبع السلطة التنفيذية، ما قد يؤثر على تصوراتهم بشأن العلاقة بين السلطة والقانون والمجتمع. وكانت مؤسسة دعم العدالة في المركز العربي لاستقلال القضاء والمحاماة، التي يترأسها المحامي الحقوقي ناصر أمين، قد دانت في بيان سابق لها احتفال الأكاديمية العسكرية المصرية بتخريج الدفعة الأولى (ب) من المعينين في الجهات القضائية، الذي أقيم منذ أشهر، بعد تلقيهم التدريب اللازم في مقر الأكاديمية بالكلية الحربية، مؤكدة أنه انتهاك شديد لاستقلال القضاء. وأكدت المؤسسة أن إخضاع السلطة القضائية كي يتلقى أعضاؤها تدريبات متخصصة في الجهات التابعة لوزارة الدفاع لم تكن هذه المرة الأولى، فقد سبقتها خطوات مشابهة لكنها لم تشتمل على أعداد القضاة ولم تركز على المعيّنين الجدد، ولكنها اقتصرت في وقتها على أعداد وفئات محددة من أعضاء السلطة القضائية، ومن ذلك بروتوكول التعاون الموقّع بين نادي القضاة ووزارة الدفاع لتدريب 90 من القضاة في عام 2018 حول موضوع "الدراسة الاستراتيجية للأمن القومي".
وشددت المؤسسة على أن هذه الممارسات تعدّ مساساً بالمكوّن القضائي لأعضاء السلطة القضائية ومؤثراً مباشراً على تكوينهم القضائي ومسلكهم اللاحق في ما يخص وظائفهم، ويؤثر هذا المسلك على مصداقية وسلوك المشاركين في هذه الدورات من القضاة وغيرهم. وفي السياق، قال مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق السفير عبد الله الأشعل، في تصريحات لـ"العربي الجديد"، إن إخضاع الكوادر المدنية، مثل معاوني النيابة العامة والدبلوماسيين، لتدريب عسكري داخل الأكاديمية العسكرية، "يمثل مظهراً من مظاهر الفشل والارتباك في إدارة الدولة خلال السنوات الماضية"، معتبراً أن هذه الخطوة تهدف إلى "عسكرة كافة موظفي الدولة، في محاولة لتعميم نموذج الانضباط والطاعة على الحياة المدنية". وحذر الأشعل من أن "عسكرة المدنيين لن تُنتج إلا مزيداً من العزلة بين الدولة ومجتمعها، وستقوّض ما تبقّى من مؤسسات مدنية قادرة على التعبير عن المجتمع وتمثيله بشكل مستقل".
خلق مواطن منضبط
وخلال الأيام الماضية، احتفلت الأكاديمية العسكرية أيضاً بتخريج الدفعة 57 من الملحقين الدبلوماسيين بوزارة الخارجية، في حفل رسمي حضره وزير الخارجية بدر عبد العاطي، الذي أشاد بما وصفه بـ"دور الأكاديمية في بناء الشخصية الوطنية للملحقين". وتكرر المشهد مع أعضاء جدد في هيئة الرقابة الإدارية ومهندسين جدد في وزارتي الري وتخطيط استخدامات أراضي الدولة، الذين تلقوا تأهيلاً فنياً وأمنياً مكثفاً، تخلله تدريب على مبادئ الانضباط المؤسسي وأساليب العمل داخل المؤسسات السيادية. وتزامناً مع هذا التوسع، وقّعت الأكاديمية العسكرية المصرية بروتوكول تعاون مع "الأكاديمية الوطنية لتدريب وتأهيل الشباب"، وهي مؤسسة أنشأها جهاز المخابرات العامة عام 2017، تحت إشراف اللواء عباس كامل، مدير المخابرات السابق. وتُعد الأكاديمية الوطنية اليوم أحد أهم المسارات الإلزامية أمام الراغبين في تولي المناصب الإدارية والتنفيذية داخل الدولة، ما يعزز من اندماجها ضمن منظومة التأهيل الأمني والسياسي للكوادر.
سعيد صادق: رغبة واضحة لدى الدولة في خلق المواطن العسكري المنضبط، على غرار النموذج السائد داخل المؤسسة العسكرية
وقال أستاذ علم الاجتماع السياسي سعيد صادق، في تصريحات لـ"العربي الجديد"، إن الفلسفة الحاكمة وراء إسناد عملية تأهيل موظفي الدولة إلى الأكاديمية العسكرية والأكاديمية الوطنية الخاضعة لإشراف أجهزة سيادية، تعكس رغبة واضحة لدى الدولة في "خلق المواطن العسكري المنضبط"، على غرار النموذج السائد داخل المؤسسة العسكرية، مضيفاً أن ذلك ينبع من حالة عدم الرضا عن أداء البيروقراطية المدنية التقليدية. وأوضح صادق أن "هذه السياسة لا تقتصر على الموظفين الجدد، بل تمتد أيضاً إلى طلاب الجامعات، الذين يُلزمون بتلقي تدريب عسكري خلال سنوات الدراسة، في محاولة لإعدادهم مبكراً على قيم الانضباط والطاعة والامتثال الإداري للسلطة"، مشيراً إلى أن الدولة تسعى، من خلال هذه المنظومة، إلى تشكيل جيل جديد أكثر انخراطاً في رؤية الدولة المركزية، وأقل قابلية للمساءلة أو المطالبة بالاستقلال المؤسسي.
لكن على الجانب الآخر، قال أستاذ القانون الدستوري الدكتور صلاح فوزي، في تصريحات لـ"العربي الجديد"، إن من الطبيعي أن تضطلع المؤسسة العسكرية بتدريب من تقتضي طبيعة عملهم الإلمام بالعلوم العسكرية والأمنية، سواء في المراحل التعليمية أو الوظيفية المختلفة داخل الدولة، مشيراً إلى أن هذا التوجّه ليس جديداً، بل ينسجم مع ما هو مطبّق في مؤسسات تعليمية أخرى. وأوضح فوزي أن "أعضاء النيابة العامة وغيرهم من العاملين في المؤسسات القضائية يحتاجون إلى حد أدنى من المعرفة بالعلوم الأمنية والعسكرية، بالنظر إلى حساسية مواقعهم، وطبيعة الملفات التي يتعاملون معها، وهو ما يبرر إخضاعهم لدورات تأهيلية متخصصة"، مضيفاً أن "الأكاديمية العسكرية المصرية هي الجهة الوحيدة المؤهلة لتنفيذ هذه البرامج التدريبية، كما هو الحال مع مؤسسات تعليمية أخرى مثل المدارس والمعاهد التي تقدم فيها مقررات أو تدريبات مشابهة".

Related News
