
يبدو الوضع اللبناني معقّداً كفايةً، ودخلت الحكومة في منطقة الحسم في عملية سحب السلاح غير الشرعي منعاً لاستمرار الحرب، وامتناع الدول الصديقة عن توفير الأموال اللازمة لٳعادة ٳعمار ما هدمته الحرب، ما ينقض أيّ فرصة سياسية لنهاية أزمات لبنان، التي لا تكاد تُحسَم واحدة منها، حتى يُتراجَع عنها، أو تعود أخرى مثل قضية هويّة مزارع شبعا الحدودية (اللبنانية أو السورية)، أو قانون الانتخابات النيابية، وما يخصّ اقتراع المغتربين. لذلك، تعطي السلطة الجديدة انطباعاً بأنها في مرحلة حاسمة، وعليها أن تقرّر ما ستفعله في مواجهة الضغوط الأميركية، والتهديدات الٳسرائيلية باستخدام القوة، مع جملة التحدّيات السياسية والأمنية والاقتصادية، في اقتصاد الحرب والتضخّم وفقدان الثقة بموقع لبنان الحديث.
يُقبل لبنان على ردّ حاسم على مطالب الولايات المتحدة، وخريطة الطريق المكتوبة التي سلّمها للمسؤولين المبعوثُ الأميركي الخاصّ ٳلى سورية توماس برّاك، في دعوة مباشرة إلى تحييد الساحة اللبنانية عن الحرب، وٳبقاء مواقفه متوازنةً في النزاعات الٳقليمية، وتحسين علاقاته مع سورية، وتنفيذ إصلاحاتٍ مالية واقتصادية ومصرفية عاجلة. ولبنان أصغر من القدرة على التخلّص من مشكلاته الخانقة المعروفة، وقد عادت بعض القوى الخارجية إلى التلاعب، كما برز في موقف نوّاب التغيير، الذين أمّنوا نصاب الجلسة التشريعية السجاليّة أخيراً في معركة قانون الانتخاب الجديد. مع ذلك، يظهر ركود سياسي حادّ عند اللبنانيين، وتباطؤ تنفيذي للخطوات العملية بخلاف "المومينتوم" (مؤشر الزخم) الٳيجابي الٳنشائي، الذي حمله انتخاب جوزاف عون رئيساً للجمهورية، والقاضي نوّاف سلام رئيساً للحكومة. ذلك أن لبنان ليس مؤهّلاً بعد للالتحاق بركب السلام في "العصر الجديد"، وليس لديه كثير لتقديمه من الشراكات الاقتصادية والسياسية التي ترتسم خطوطها في المنطقة.
السلاح اختزال للأزمة اللبنانية، مقابل الانقسام الطائفي السياسي حوله، وسلسلة الأزمات المتراكبة
لا خطّةَ واضحةً لدى لبنان حيال ما سيحدُث بين أميركا وٳيران، وبين أميركا والحكم الجديد في سورية، والقصّة الحقيقية أكبر من ذلك بكثير، ٳنها انقلاب كامل في موازين القوى في الشرق الأوسط، تستخدم فيه جميع أدوات القوة الأميركية الاقتصادية والعسكرية بالشراكة مع آخرين، يريدون الدفاع عن سيادة الدول في نهج يؤسّس لاستقرار ٳقليمي كافٍ تشارك فيه الولايات المتحدة في تحقيق السلام بين ٳسرائيل ولبنان، وتحقيق الاستقرار في سورية، و"جزّ عشب" وكلاء ٳيران المحلّيين. يتطلّب هذا دبلوماسيةً ناجحةً من الرئيس عون وفريقه، وفنّاً في الحكم والتبصّر، وإدراكاً للتوقيت الدقيق. ليس الوقت مناسباً للاندفاع نحو اتفاقاتٍ متسرّعةٍ في مستقبل يقوم على ميزان قوىً جديد، وأن يعمل الحكم بطريقة لينين، وليس بطريقة تروتسكي، في مقاربة خيار تثبيت سيادة الدولة، وتملّكها حصريّة قرار الحرب والسلم. لكن التزاماً كهذا لا يمكن التحقّق منه في واقع لبنان الجديد، ومع عدم وجود أدلّة على ٳمكانية نجاح أيّ مبادرة (ليس في وارد أحد استخدام القوة لنزع سلاح حزب الله الذي يمارس استراتيجية "التخفّي" وراء كسب الوقت، وعدم تقديم أيّ تنازلاتٍ بانتظار الوقت الملائم لاستعادة قوته). وهناك معلومات مخابراتية (لا يعرفها اللبنانيون) عن حجم التحدّيات، ومنها طبيعة الخلافات في وجهات النظر الأميركية والٳسرائيلية بشأن تحييد لبنان عن مواجهات مقبلة، والٳسرائيلي لا يضرّه مزيد من الفوضى في لبنان وسورية وفي ٳيران، وٳذا اختارت الأخيرة فعلاً المصالحة مع واقع الشرق الأوسط الجديد، فستكون هناك دبلوماسية موثوقة، لكن ليس قبل ذلك.
أبدى الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، مرّات عديدة، ٳعجابه بلبنان واللبنانيين، وإبداعاتهم الثقافية، وهي فرصة ليستفيد منها البلد الصغير، ويحظى فيها بدعم دولي من الخماسيّة غير مسبوقٍ، لا سيّما في التعويل على مؤتمر دولي كبير، كما حدث في العام 1992، وعلى اجتماعات واشنطن، والكلام عن شرق أوسط جديد، إذ بالإمكان أن يكون له دور ما في السياحة والخدمات والتعليم، ودور للقطاع الخاصّ والشباب في القطاع التكنولوجي، والاستجابة لمبادرة الملياردير ٳيلون ماسك، ولرغبته في الاستثمار في لبنان. فيكون لبنان من المستفيدين من استعادة الانفتاح الغربي على ريادته في المنطقة.
يمارس حزب الله استراتيجية "التخفّي" وراء كسب الوقت، ولا يقدّم تنازلات بانتظار وقت ملائم لاستعادة قوته
لم ينته الصراع الحدودي المدمّر، المستمرّ مع ٳسرائيل منذ عام 2024، وهي ترسل رسائلها النارية يومياً، في حين لا يستخدم حزب الله أقوى أسلحته حتى الآن. لكن الخوف هو احتمال تصاعد الأمر، ولم يفلح الأخير بعد في الوفاء بوعوده بٳعادة ٳعمار ما هدمته الحرب للعديد من القرويين، الذين يتفقّدون قراهم المدمّرة في جنوب لبنان. وهو اعتقاد العائلات اللبنانية، أنه على الرغم من الفوضى في بلادهم، يمكنهم بناء حياة هناك، مع أن الوضع لا يزال غير قابل للتنبّؤ بمصير الأيام المقبلة، التي تسبق عملية التمديد لقوات الأمم المتحدة (يونيفيل) في 31 أغسطس/ آب المقبل.
بعد عقود من الصراع مع ٳسرائيل، عاد الصوت ٳلى لبنان، لكن ليس الروح. لا يزال هناك شيء ناقص، فالسلاح اختزال للأزمة اللبنانية، مقابل الانقسام الطائفي السياسي حوله، وسلسلة الأزمات المتراكبة. واللبنانيون على قناعة بأن كلّ الدعوات والتسريبات التي توجّه إليهم إلى التطبيع سابقة لأوانها، إذ تحكم علاقات لبنان مع الكيان المحتلّ اتفاقية الهدنة العام 1949، ولن يكون هناك مفاوض في الطرف الآخر على الطاولة من دون توافق عربي عريض. وقد توالت الجهود منذ عقود، بما في ذلك مبادرة السلام العربية في بيروت لعام 2002، وخريطة طريق الشرق الأوسط للفترة 2002 - 2003، ومؤتمر أنابوليس عام 2007، والدبلوماسية المكوكية لوزير الخارجية الأميركي، جون كيري، في 2013. وجهود الٳدارة الأميركية الجديدة ليست آخر الجهود الرسمية التي تبذلها الولايات المتحدة للمساعدة في التفاوض على حلّ سلميّ للقضية الفلسطينية/ التسوية، ولقد فشلت جميعها.
المشهد مركّب في متاهة سياسية داخلية، ويتّصل أكثر بحرب تتفلت من أطرها الكلاسيكية ٳلى حرب عالمية ثالثة تقلب أوضاع المنطقة وأحوال العالم، والجديد هو المسؤولية عما ينجزه الحكم والمجتمع اللبنانيان في الظروف الراهنة، وٳعادة النظر في الفرضيات، وطرد الأوهام، لتثبيت التحوّل بعد وقف ٳطلاق النار في 27 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، بدلاً ممّا تسبّبا فيه، ومن تعريض البلد للحرب أو الفوضى، اللتين قد تتخذان أشكالاً مختلفةً، غالباً ما تكون نتيجتهما دماراً وكثيراً من القتلى والتهجير للمدنيين.

Related News
