
عندما يتعلّق الأمر بمصلحة الأوطان وسلامة الشعوب تُحيَّد المناكفات الحزبية والسياسية جانباً، للتفرّغ للعدو المركزي أو التحدّي الجاثم أمام الجميع، أو هكذا ينبغي. القيادات التي ترتقي إلى مستوى المسؤولية في ظلّ تهديدات جسام تكون قياداتٍ وطنيةً، وقد تتجاوز ذلك لتكون قياداتٍ تاريخيةً لشعوبها. أمّا التي تنكسر في مثل تلك اللحظات المفصلية، فهي قيادات فاشلة يطويها التاريخ، اللهم إلا من زاوية رَكنها في سجلّ الصِّغار. إذا كان هذا حال قياداتٍ لم تكن على مستوى مرحلة حرجة في تاريخ قضاياها وأوطانها وشعوبها، فكيف يكون مصير قياداتٍ تمارس الخيانة أو العمالة أو التواطؤ مع عدو يحتلّ أرضها ويسحق شعبها، سواء أفعلتْ هذا عن قناعةٍ أم من باب مناكفاتٍ سياسيةٍ بينيَّةٍ تتضاءل أمام تهديد وجودي ماثل أمام الوطن برمّته؟... للأسف، ذلك حال قيادة السلطة الفلسطينية القابعة في رام الله، التي لا تكتفي بالتعامل مع حرب الإبادة الإسرائيلية الجارية بحقّ شعبها في قطاع غزّة، بلا مبالاة ولا اكتراث، وكأنّ تلك المجازر تُرتكب بحقّ شعب آخر، لا تربطها به صلة في قارّة تبعد عنها آلاف الأميال. بل أكثر من ذلك، نجدها تتعاون، أو حتى تُسبِغ غطاءً تنظيمياً و"وطنياً" مغشوشاً على عصابات إجرامية في قطاع غزّة، لا تُخفي إسرائيل عمالته لها.
أورد تقرير في صحيفة يديعوت أحرونوت الإسرائيلية (2 يوليو/ تموز الجاري) أن إسرائيل تنسّق وتدعم مجموعتَين فلسطينيتَين مسلّحتَين تقاتلان حركة المقاومة الإسلامية (حماس) في القطاع، يترأسهما ياسر حنيدق ورامي حلّس، وكلاهما من عناصر حركة التحرير الوطني الفلسطيني (فتح)، ويتقاضيان رواتب من السلطة الفلسطينية. وبحسب التقرير، تتلقّى المجموعتان السلاح والمساعدات الإنسانية من إسرائيل، على أن يقاتل حلّس ومجموعته "حماس" في منطقة الشجاعية، ويقاتل حنيدق ومجموعته "حماس" في خانيونس. قبل شهر من ذلك، أقرّت إسرائيل رسمياً دعم وتسليح عصابة ياسر أبو شباب، التي تعمل في التهريب وسرقة المساعدات الإنسانية في قطاع غزّة، واتخذ رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بنفسه قرار تشكيل هذه العصابة ودعمها.
ياسر أبو شباب هذا مجرم مُدان، كان يقضي عقوبة السجن بتهمة المتاجرة بالمخدّرات، تمكّن من الهرب بعد بدء إسرائيل عدوانها على قطاع غزّة، في أكتوبر/ تشرين الأول 2023، ولم يلبث أن ظهر ينهب قوافل المساعدات القليلة الموجّهة للغزّيين المنكوبين، الذين يفتك بهم الجوع، تماماً كما تفتك بهم القنابل الإسرائيلية، كما لم تتردّد عصابته في مقاتلة المقاومين الفلسطينيين مع جيش الاحتلال، بل أكدت وسائل إعلام إسرائيلية في 27 الشهر الماضي (يونيو/ حزيران)، أن جثث الأسرى الثلاث التي أعلنت إسرائيل استعادتها قبل ذلك بأيام، كانت عملية نفّذتها عصابة أبو شباب، وليس الجيش الإسرائيلي. ومع ذلك، لم نسمع من السلطة الفلسطينية أيّ إدانة لهذه العصابة المجرمة (تكتفي السلطة بنفي علاقتها بها)، التي تساهم في تجويع شعبها وقتله، في حين يؤكّد زعيمها الخائن ارتباطه بالسلطة الفلسطينية في رام الله.
تُسبِغ السلطة الفلسطينية غطاءً تنظيمياً و"وطنياً" مغشوشاً على عصابات في غزّة
نشرت إذاعة جيش الاحتلال الإسرائيلي، في 25 الشهر الماضي مقابلةً أجراها مراسلها العسكري دورون كادوش مع أبو شباب، كشف فيها الأخير علاقة مليشياته بالسلطة الفلسطينية. يقول: "تربطنا علاقة بالسلطة الفلسطينية، وهي شريكة في عمليات التفتيش الأمني في مداخل المنطقة التي نوجد فيها في رفح. علاقتنا مع السلطة قائمة في إطار المصلحة الوطنية العليا للشعب الفلسطيني، وفي إطار شرعيتها القانونية، نجري عمليات تفتيش أمنية عبر جهاز المخابرات الفلسطينية، الذي يتعاون معنا في هذا الشأن لضمان عدم دخول عناصر معادية تُخرّب مشروعنا للتحرّر من (حماس)، من دون أن نتلقى تمويلاً من السلطة". وفي اليوم نفسه، نشر مراسل صحيفة يديعوت أحرونوت، عيناف حلبي، تقريراً آخر عن العصابة ذاتها، أشار فيه إلى قياديٍّ آخر فيها اسمه غسّان الدهيني، هو "عضو رسميٌّ في حركة فتح". وبحسب التقرير نفسه، أفادت مصادر في السلطة الفلسطينية بأن مليشيا أبو شباب تتلقّى رواتب منها تحت رعاية شخصية من ضابط المخابرات الكبير بهاء بعلوشة. وينقل التقرير عن مسؤول أمني فلسطيني في السلطة أن "مجموعتَين إضافيَّتَين من المليشيات ستبدآن عملهما قريباً في القطاع، واحدة في بيت لاهيا شمالاً، والأخرى في الوسط، تحظيان بدعم إسرائيل والسلطة والقيادي السابق في فتح محمد دحلان، وكلّها تعمل علناً ضدّ حماس"، وربّما هنا كان يشير باكراً إلى مجموعتي ياسر حنيدق ورامي حلّس.
تمارس السلطة الفلسطينية هذه الرزايا، وجزء من شعبها يتعرّض لحرب إبادة بغيضة وتجويع منهجي غير إنساني، وتساهم أذرعها هذه في ذلك كلّه، وهي بالمناسبة أذرع إسرائيلية بالدرجة الأولى، أقرب إلى صيغة "مليشيات لحد" اللبنانية العميلة (1976- 2000)، ولكنّها تلتفّ بغطاء "وطني" مزعوم تسبغه السلطة الفلسطينية عليها. ليس هذا فحسب، فالسلطة لا تحصل حتى على ثمنٍ بخس مقابل ما تقدّمه من خدمات لإسرائيل في القطاع، فها هي حكومة نتنياهو تستعدّ لضمّ أجزاءٍ واسعةٍ من الضفة الغربية بدعم أميركي، وما زال نتنياهو يصرّ على أن السلطة الفلسطينية لن تكون جزءاً ممّا يسمى "اليوم التالي" في قطاع غزّة، بعد "هزيمة" حركة حماس الموعودة. لا تفعل السلطة هذا في سياق رؤية لمشروع وطني، بقدر ما أنها من باب المناكفة الفصائلية مع "حماس". مفهوم أن بعض الصِّغار غير قادرين على أن يكبروا، فيبقون صِغاراً. الكارثة أنهم يدمّرون ما تبقّى من قضية شعب سطوا هم عليها في عتمة من ليل.

Related News
