
"الحديقة الخلفية" كلمة لها دلالات ثقيلة، جغرافياً وسياسياً، فضلاً عن معناها الحرفي، أي الفِناء الخلفي للبيت. ولعلّها لا تعني كثيراً في منطقتنا التي تضع الحدائق أمام البيوت لا خلفها، ربّما لأنّنا نحبّ (بحكم العادة) أن نضع أفضل ما لدينا في الواجهة، لا في الخلف، ربّما تعفّفاً، أو غالباً لأننا نُحبّ التظاهر.
في المعنى العام، تُستعمل العبارة كثيراً في سياق العلاقات الاستراتيجية، منذ اقتحام روسيا أوكرانيا، وتوسّع الصين في محيطها، وأحداث أخرى. وظهرت عبارة "ليس في حديقتي الخلفية" في منتصف سبعينيّات القرن العشرين، وتشير إلى معارضة الشخص وجود شيء يُعدّ غير مرغوب فيه في الحيّ الذي يسكن فيه. جاءت هذه العبارة ردّة فعل من رافضي إقامة دُورٍ جماعيّةٍ للأشخاص في أوضاع خاصّة، مثل مراكز إدماج الشباب الذين يعانون مشكلاتٍ سلوكية أو المنقطعين عن الدراسة أو مراكز علاج الإدمان.
قد تُستخدم العبارة أيضاً في رفض استعمال الشمال الجنوب حديقةً خلفيةً. وطبعاً، المقصود ليس ذلك النوع من الحدائق حيث تُزرع الأزهار حول أرجوحة مريحة وألعاب الأطفال، بل ذلك النوع من "الفِناء الخلفي" الذي تُشكّله منطقة فارغة خلف الأحياء، تُحوَّل مكبَّ نفاياتٍ أو مستودعاً للمتلاشيات، أو فِناءً للتخلصّ من هياكل السيارات المهجورة. وهنا، في المعنى العام، تُقال العبارة ضدّ استخدام الشمال للجنوب مكبَّ نفايات للتخلصّ من نفاياته السامة.
سياسياً، ظهرت عبارة الحديقة الخلفية (backyard) في إطار "مبدأ مونرو" لعام 1823، حين اعتبر الرئيس جيمس مونرو أن أميركا اللاتينية هي "الفِناء الخلفي" للولايات المتحدة، وبالتالي، يجب منع تدخّل القوى الأوروبية فيها، مع العلم أنها حينها لم تكن تبحث سوى عن النجاة من هذه الأخيرة. ففكرة "الفِناء الخلفي" لأميركا تشير إلى امتداد محيطها الذي يجب أن يكون مكاناً آمناً لها. يرتكز هذا المفهوم على ركيزتَين جيوسياسيتَين: المساحة والقوة، وعادةً ما تكون جغرافيته محدودةً، وغالباً ما تشمل منطقةً محاذيةً لحدود قوة عظمى، تستبعد القوة العظمى القوى الكبرى الأخرى من المنطقة، وتُقيّد سيادة الدول الأصغر داخلها مقابل منافع.
يمتدّ المصطلح أيضاً ليعبّر عن منطقة التأثير المحيطة بأيّ قوة عظمى؛ فالصين تعتبر جنوب شرقي (ووسط) آسيا جزءاً من "فِنائها الخلفي" العسكري والاقتصادي، وفرنسا يمتدّ فضاؤها الخلفي إلى أفريقيا، ويشمل أفريقيا الفرنكوفونية. ومع الإشارة إلى أن الولايات المتحدة أصبحت، منذ عقود، تُعدُّ العالم كلّه "فِناءها الخلفي"، بفضل دعم المؤسّسات الكُبرى متعدّدة الجنسيات لمصالحها.
عندما وُضعت مبادئ مونرو للمرّة الأولى كانت ذات طابع دفاعي. ومع ذلك، ومع تسارع وتيرة تنامي الثروة والقوة، اكتسبت هذه المبادئ معنيين جديدين. أولاً، السيادة، ثمّ فرض الهيمنة على الأميركتَين. ومع بداية القرن العشرين، وبعد سنوات قليلة من انتصار الولايات المتحدة على إسبانيا، صاغ الرئيس ثيودور روزفلت مبادئها رسمياً في مبدأ روزفلت، الذي أكّد صراحةً حقّ واشنطن في التدخّل في أيٍّ من دول أميركا اللاتينية ترتكب "أخطاءً مزمنةً" قد تضّر بمصالح واشنطن.
في المقابل، استعملت أوروبا الغربية عبارة "ليس في حديقتي الخلفية" في سياق الحرب ضدّ أوكرانيا، فحروب الشمال في الجنوب ليست كحروب الشمال داخل الشمال. هنا، صار الخطر أقرب ممّا يجب، ولا يجوز ضرب دول جارة لأوروبا الغربية، التي لا تريد رائحة الحروب قريبةً منها، فقد تصل إلى فنلندا، وأخريات من أماكن هي ذروة الرخاء والرفاهية والاستقرار النفسي.
"لا، ليس في حديقتي الخلفية"، يمكن أن يُقال عن حروب المنطقة الأكثر تعاسةً في العالم، العربية بطبيعة الحال، وحروب الإمارات وإيران في اليمن أو ليبيا أو حتى سورية كانت بعيدةً من المحيط بما يكفي لتترك مساحة أمان. لكن نقلها إلى إيران قد يعني أن "الفِناء الخلفي" صار ملغوماً. ومجرّد حدوث ضربات إيران في قطر يزيل الحاجز النفسي لفكرة حرب في المنطقة، التي تعيش منذ حرب صدّام حسين على الكويت في أمانٍ تدفع ثمنه غالياً.

Related News
