
المعروض على الجانب الفلسطيني هذه المرّة: إطلاق سراح الأسرى الصهاينة، الأحياء والأموات، خلال 60 يوماً، ثم مغادرة المقاومة الفلسطينية قطاع غزّة وفلسطين كلها إلى المنفى بلا رجعة. هذا ما تروّجه الإدارة الأميركية باعتباره عرض الصفقة التاريخية التي لا يمكن رفضها.
سلّموا سلاحكم وخرائطكم وروايتكم واخرجوا من الجغرافيا والتاريخ، واتركوا لنا شعبكم نحكمه ونديره على طريقتنا، ومن يرفض نحاصره ونجوّعه ثم نقتُله في النهاية، هكذا يعلنها الصهيوني، ومن خلفه يهتف نفرٌ من العرب ضد الذاكرة، ويندّدون بكل محاولة مرّت في تاريخنا من أجل تحقيق انتصار أو نصف انتصار، فكان مصيرها الفشل الكامل أو بعض النجاح، كأن كل من حاولوا خطّاءون ومجانين وأغبياء، وعند بعضهم عملاء، أو كأن المحاولة ذاتها جريمة إن لم تستأذن أولئك الحكماء السخفاء الغارقين في أوهام الكهانة الأكاديمية التي تقرأ المستقبل كما تقرأ الماضي، فتنهال بالسوط على كل من شخبط على جدار العجز والانتظار، من يحيى السنوار حتى جمال عبد الناصر وصدّام حسين، مروراً بحسن نصر الله وإسماعيل هنيّة ومحمد الضيف، وأخيراً إيران، حيث يتفنّن الكهنة في استخراج الضعف والهزيمة من قلب الصخور المدفونة في عمق المحيط، بينما لا يستطيعون شمّ رائحة انتصار ولو صغير.
قبل عشرة أشهر من "طوفان الأقصى"، تبنّت الجمعية العامة للأمم المتحدة قراراً يطالب محكمة العدل الدولية بالنظر في مسألة احتلال إسرائيل الأراضي الفلسطينية، فخرج بنيامين نتنياهو ليصف القرار بأنه "حقير"، ويزعم إن الصهاينة ليسوا محتلين، ويقول إن "اليهود ليسوا غزاة لأرضهم، عاصمتنا المنتصرة القدس ليست محتلة، قرارات الأمم المتحدة لا تلزم الحكومة الإسرائيلية في زمانها". ... بعدها، تلقى نتنياهو التهنئة من عرب وغير عرب على نجاحه في تشكيل حكومته اليمينية الصهيونية الدينية المتطرّفة التي ضمّت إيتمار بن غفير وسموتريتش، وبدأت على الفور في تنفيذ مشاريع تهويد القدس والضفة الغربية والاستعداد لاقتحام غزّة، تحت غطاء من بيانات الدبلوماسية العربية التافهة التي تنزل على الصهاينة كأنها رذاذ مطر صيفي خفيف، وتطمئنهم إلى أن أحداً لم يعد يراهم احتلالاً، إذ لا معنى للعلاقات الرسمية الدافئة بين عديد الأنظمة العربية والكيان الصهيوني، بما يشمله ذلك من سفاراتٍ مفتوحةٍ وصفقاتٍ تجارية وتحالفاتٍ اقتصادية شرق أوسطية، وأجواء مفتوحة للطيران الإسرائيلي، في سماء العرب، سوى أن هذه الأنظمة لا ترى في إقامة الكيان الصهيوني على أرض فلسطين احتلالاً أو غزواً.
لا يريد أحد أن يفهم أن الدفاع عن شرف وطن مغتصبٍ ومُهانٍ لا يتطلب من المدافع أن ينتظر حتى تكون قوته مكافئة لقوة المعتدي، كما ليس مفروضاً عليه أن يستأذن خبراء صفقات الغرف المظلمة، ولا كهنة الكلام والثرثرة قبل أن يبادر ويبدأ معركة كرامة ووجود، يستطيع هو وحده تقدير موعدها ومكانها استناداً إلى معرفته بالعدو، كما لا يريد أحدٌ أن يرى في تاريخنا الحديث كله سوى الهزائم والمغامرات المجنونة، ولا يريد أن يستوعب أن مقاومة الاحتلال واجب كل وقت ينبغي أن يؤدّيه كل من يجد الفرصة أو يمتلك شيئًاً من القدرة على توجيه ضربة أو تسديد رمية.
محيّر حقًاً دأب الحكماء أصحاب العقل البارد على تكريس إحساسٍ بأننا أمّة لا تصلح إلا للهزائم، ولا تعرف إلا الموسيقات الجنائزية، معاركها أوهامٌ وانتصاراتُها أكاذيب، وبالتالي، تبّاً لكل من يجرؤ على الحلم ويقدم على معركة، واللعنة على كل مقاوم لا يمتلك إمكانات العدو، والمجد للمنتظرين على قارعة طريق التطبيع. وهذا بالضبط ما تريده إسرائيل، وينعق به الناعقون، ويغطسون في الأرشيف، بحثاً عما يسند رواية الهزيمة المحتومة.

Related News
