
أحسنت منظمة غرب آسيا للنماء الاقتصادي والاجتماعي الأسكوا ESCWA صنعاً بعقدها مؤتمراً في مدينة الجزائر العاصمة يومي الثلاثاء والأربعاء قبل الماضيين حول موضوع الحماية الاجتماعية، وبرامجها ومقارباتها. وقد نظمت هذه الندوة بإصرار القائمين عليها على ألا يكون أي حائل دون عقدها رغم بدء هجوم الولايات المتحدة على المنشآت النووية الإيرانية، واستخدام قنابل لم تستخدم من قبل، واستمرار العدوان الهمجي الإسرائيلي على غزة وجنوب لبنان.
ورغم تغيير تذاكر المشاركين من الوفود والخبراء والمحللين بسبب التغييرات المفاجئة في الرحلات الجوية لشركات الطيران، إلا أن العاملين في الأسكوا استمروا بصبر وثبات يتابعون عملهم حتى عقدت الندوة، التي شهدت أيضاً إعلان اتفاق لوقف إطلاق النار بين إيران والولايات المتحدة. ولقد كنت أول المتحدثين في الجلسات والندوات بعد حفل الافتتاح. وشعرت بالثقة والمسؤولية.
وكعادة الاجتماعات العربية، فقد تأخر افتتاح جلسة الافتتاح، وتحدث كل من الوزير الأول "رئيس الوزراء" في الجزائر، ومديرة الحماية الاجتماعية في الأسكوا والمديرة العامة للأسكوا، عدا عن مداخلات عريفة الحفل التي لم تخلُ من حكمة وذكاء في التعبير.
الكلمات كانت جيدة المستوى. وفي كلمة الدكتورة رولا الدشتي، كويتية الجنسية ووكيلة الأمين العام للأمم المتحدة والمدير العام للأسكوا، ركزت فيها على ديناميكية الحاجة المستمرة لتطوير برامج التنمية الاجتماعية وأهدافها، وقدمت موجزاً عن تقرير منظمة الأسكوا لعام 2024، الذي بدأ يشهد قفزات نوعية في هذه الخدمة في الوطن العربي.
وقد لاحظت اهتمام الأخوة في الجزائر من أجل إنجاح التجربة من حيث التنظيم وتوفير الخدمات الأساسية للمشاركين. ولا نملك إلا أن نقدر لهم جهودهم. وواضح أن الجزائر تريد أن تخرج من عباءة المركزية الإدارية والهيمنة الحكومية على المرافق بعدما تأكد لهم أن كثيراً من الخدمات يجب أن تقوم على أكتاف القطاع الخاص ومسؤوليته.
والجزائر بلد كبير غني بالموارد، لكن بناه التحتية المتجددة التي تمنحك الأمل، تقابلها القوى الناعمة، كالإدارة وتقديم الخدمات، التي لا تزال دون مستوى بلد مهم كالجزائر. وقد استمعنا إلى عدد من الوزراء والمسؤولين عن الحماية الاجتماعية في عدد من الدول التي كان من الضروري أن نعلم عن مستويات تقديم الخدمات اللوجستية للحماية الاجتماعية فيها لأنها عانت الأمرين.
ومن هذه التجارب كانت تجربة سورية التي عبّرت إحدى المسؤولات فيها عن الحاجة لحماية الفقراء والفئات الهشة منهم، واللاجئين والفاقدين لبيوتهم وأعمالهم ومصادر رزقهم. والواقع أن القول بأن حل الأزمة السورية ينبع من برامج الحماية الاجتماعية فيه كثير من التسطيح والتبسيط. سورية بحاجة إلى تنمية شاملة وإعادة إعمار وتدريب فعال لقواها العاملة، خصوصاً أن معظم الذين في سنّ العمل هم من الجيل الضائع بسبب طول الحرب الأهلية.
واستمعنا إلى مداخلة من مسؤول صومالي عن الوضع في بلاده، وقد تبيّن أن هذا البلد الجميل قد بدأ يستعبد بعضاً من ألقه المفقود في الزراعة والرعي اللذين يشكلان المصدر الأساس للرزق، وهما وفيران وقادران على أن يجعلا من الصومال بلداً متوسط الدخل ورافداً مهماً للأمن الغذائي العربي، ولكنه لا يزال يعاني من تدخل الآخرين، ومن الجماعات المتطرفة التي تجعل من الإعاقة لأي مشروعات وطنية هماً لها.
لكن الصومال يستطيع أن يتجاوز الكثير من هذه المشكلات لو وجدت الدعم والمساندة من الدول العربية الشقيقة. كذلك استمعنا إلى وفاء بني مصطفى، وزيرة التنمية الاجتماعية في الأردن، ويبدو أن كثيراً من المسؤولين كانوا مهتمين بالتجربة للحماية الاجتماعية في الأردن، ولم تبخل الوزيرة في الدقائق المحدودة التي وفرت لها أن تطلع الحاضرين على أن الأردن قد زاد سكانه حتى بلغوا الآن ما كان يجب أن يبلغوه عام 2040.
ورغم هذا، فقد استطاع أن يوفر الحماية والأمان ومصادر العيش الكريم لكثير من الفقراء فيه، ومن مواطني الدول العربية الشقيقة الذين طلبوا اللجوء إليه كملاذ آمن في الظروف القاسية التي مروا بها في بلدانهم. وأكدت الوزيرة أن الحكومة الأردنية عدلت قوانين الصحة لتكون أكثر شمولاً وأوسع تغطية للفقراء وأصحاب الدخول الأدنى. وكذلك توسعت في رفع أداء التعليم الحكومي وطورت المناهج وتعاملت مع أيام انغلاق المدارس عند انتشار مرض الكوفيد-19 وطورت التعليم من بعد. وكذلك زادت من مشروعات دعم المرأة، وطورت بنية العمل، خصوصاً في الاقتصاد غير المنتظم. ولهذا، رأينا أن التعليم والأجور والمستحقات قد تطورت.
وانتبه الأردن إلى ضرورة توفير المواد الغذائية الأساسية لكل المواطنين المقيمين بأسعار معقولة وكميات كافية من المخزون، ما حافظ على الأردن حصيناً ضد الحساسية لتقلبات المتوفر من هذه السلع وأسعارها. كذلك، طور الأردن بيئة العمل للعمال، وضَمِن أن أجورهم تزداد بما يكفي للتعويض عن التضخم في الأسعار، وإن بقي هذا التضخم ضمن معدلات معقولة. وطور الأردن وسائل لإسهام الأغنياء والميسورين في سد حاجات البرامج الموجهة للفقراء.
وقدّم البنك المركزي كذلك قروضاً ميسرة إلى الشركات والمبادرات في المدن والقرى والريف، من أجل الاستمرار في الإنتاج وإبقاء العمال في وظائفهم، ما أسهم في الإبقاء على نسب البطالة ضمن حدود معقولة.
واستمعنا بعدها إلى تجارب من مصر ولبنان وتونس والبحرين وسلطنة عمان. وقد كانت الوزيرة الجزائرية، الدكتورة صورية المولوجي، حاضرة دائماً، وأسهمت في عقد اجتماعات جانبية لإثراء الفكر العربي والدولي. وقد استمعنا كذلك إلى عدد من المسؤولين الأجانب وبعض الأطباء الذين حضروا إلى الجزائر وشاركوا في سرد تجاربهم المريرة عن غزة وما يجري من فضائع فيها على أيدي جيش الاحتلال (المتحضر؟؟!!).
وعودةً الآن إلى كلمتي التي قدمتها في المؤتمر، والتي ركزت فيها على عدد من النقاط المنهجية. ومن أكثر النقاط التي وجدت صدى وجدلاً لدى الحاضرين، ما قلته بأن الاقتصاد غير الرسمي يشهد ظلماً ضد الطبقات المهمشة والفقيرة. لأن هذا عالم لا يراعي القوانين. لكن البعض أشار إلى أن الاقتصاد غير المنتظم، له فوائد في سد فجوة البطالة، وليس كله شراً. فمثلاً، نظام السواقين لشركات التاكسي ليس فيه ظلم، لأن التعاقد بين السائق والشركة واضح. وكذلك فإن المبادرات النسائية الفردية في بيع الطعام المعد منزلياً أو تجهيز المنتجات الزراعية وبيعها مقطعة أو مقورة أو مشتولة ليس فيه ظلم.
فقلت: "نعم، هذا صحيح، ولكن في القطاع التعليمي الخاص هناك ظلم للعاملات عند التعاقد معهن، وتشغيل الأطفال في الأعمال القذرة فيه ظلم. وآن الأوان لأن نعالج تلك الثغرات". أما النقطة الثانية، فكانت متعلقة باللامساواة في كثير من مناطق العالم. وقد قلت في مداخلتي إن الفجوة بين الفقراء والأغنياء تزداد اتساعاً وعمقاً داخل الدول وبين الدول. وقد أشار البعض إلى أنه لا يوجد دليل على اتساع الفجوة في الدخول. وهذا جواب لا يكفي لاتخاذ موقف. وبينت أن دراسات توزيع الدخل والثروة ليست مقنعة وبحاجة إلى إعادة النظر. فالإحصائيون يستعملون ما يسمى معامل جيني أو Genetic coefficient أو منحنى لورنز Lorenz curve، وكلاهما مرتبط بالآخر، ونحن نستخرج معامل جيني من التوزيع الذي يقرره منحنى لورنز. وقد ناقش كثيرون أن الهدف من هذا المنحنى ليس منح كل فئة ما يساويها من الدخل. فنقول إن 10% من السكان يحصلون على 10% من الدخل أو من الثروة. فهذه تصبح اشتراكية عديمة النفع.
ولكنهم يستخدمون هذا الأمر خريطةً لقياس مدى الفقر والهشاشة في المجتمع، ويتخذون من الوسائل ما يمنع الانفجار أو الغضب الشعبي على الحكومات. ومجرد النظر إلى الأمر من هذه الزاوية، فإن مدلولات المنحنيات تصبح خاضعة للاستنتاجات الشخصية وغير الموضوعية أحياناً. كذلك نبهت في هذا السياق إلى أن بعض المحللين يخلطون بين المساواة والعدالة. فالعدالة -في رأيي- استخدام المعايير نفسها في قياس قدرة الناس دون تعصب أو تدخل منهم من أجل الوصول إلى نتائج مسبقاً.
أما العدالة، فهي منح كل ما يستحق مقابل جهده ونتائج بذلِهِ. فالمساواة تقول إن أجر الشخص الذي يقوم بالعمل كذا، يجب أن تكون كذا، بغضّ النظر عن إنتاجيته. أما العدالة، فهي أن تعطي الشخص ما يستحقه مقابل جهده وإنتاجه، وإن كان وصفه الوظيفي مشابهاً لآخر أقل منه إنتاجية. ولعل الفوارق ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالتعليم والرعاية الصحية التي يلقاها الأشخاص.
فمن يذهب هذه الأيام إلى مدرسة خاصة يتعلم فيها بحرية ويمارس فيها حرية التعبير والذكاء الاجتماعي، ويكتسب معرفة اللغات والكمبيوتر، فسيتقدم على من يدرس في المدارس العامة ذات الإمكانات المحدودة والإدارة السلطوية. وكثير من الناس من يتخلف بسبب أمراض أو سوء تغذية يعاني منها في طفولته، ما لا يستطيع استدراكه عند بلوغه سن الرشد أو النضج. لذلك، لا يمكن الفصل بين المساواة في فرص التعليم والطبابة عن تفاوت الفرص في الحياة. موضوع الحماية الاجتماعية كبير، وله قضايا كثيرة ومتعددة، وستجد دولنا العربية أن هذا الموضوع سيستأثر مستقبلاً بكثير من اهتمام المسؤولين الراغبين في رفع مستوى الكفاءة والإدارة في بلدانهم.

Related News

