
تشهد الزراعة في سورية، لاسيما في المحافظات الجنوبية، درعا والسويداء والقنيطرة، أزمة غير مسبوقة جسّدتها تحديات كثيرة بدءا من انخفاض معدلات الأمطار هذا العام إلى أدنى مستوياتها ومروراً بتضاعف تكاليف المستلزمات الزراعية وانهيار البنى التحتية وانتهاء بالأوضاع الأمنية المتردية.
من سهول منطقة حوران التي كانت تُلقب بـ"سلة خبز روما" قبل ألفي عام، و بـ"سلة خبز سورية" في القرن الماضي، يقول المزارع خالد العلي (62 عاماً)، من ريف درعا، لـ"العربي الجديد": إن "هذه المرة هي الأولى منذ أربعين عاماً أرى الأرض تتشقق عطشاً".
خالد الذي ورث الزراعة عن أبيه وجده خسر هذا العام أكثر من 200 دونم (الدونم يعادل ألف متر مربع) من القمح. وما شهده هذا المزارع ليس استثناءً، ففي محافظات درعا والسويداء والقنيطرة، حيث تتحول المعركة اليومية من أجل لقمة العيش إلى حرب وجود ضد رباعية قاسية، جفاف غير مسبوق، وقفزات في أسعار المستلزمات الزراعية والوقود، وبنى تحتية متداعية تنهار تحت وطأة 14 سنة من الأزمات والحرب، وأوضاع أمنية متردية واحتلال يمنع المزارعين من العمل في أراضيهم وتسرق مياههم.
يشير مسؤول في مديرية الزراعة في درعا، في حديث لـ"العربي الجديد" إلى أن معدل هطول الأمطار لم يتجاوز 113 ميلمتراً هذا الموسم أي بتراجع قدره 60% هن الموسم السابق، كاشفاً أنه أدنى مستوى هطول منذ عام 1985.
ويقول المسؤول إن الإحصائيات التقديرية الأخيرة تكشف أن 55% من الأراضي المروية في أرياف المحافظة تحولت إلى بعلية، وأن 38% من المساحات الزراعية أصبحت بوراً.
ويضيف أن متوسط العجز المطري في المحافظة تجاوز هذا الموسم 59%، لافتا إلى أن أعداد أشجار الزيتون انخفض خلال السنوات الأخيرة من 6 ملايين شجرة قبل 2012 إلى 3.5 ملايين حتى اليوم، كما تراجعت مساحات العنب من مليوني شجرة إلى 328 ألفاً، بسبب الجفاف وملوحة المياه الجوفية.
وفي قرى كثيرة كقرية جاسم في ريف درعا، يحاول المزارعون بطرق بدائية إنقاذ ما تبقى من أشجار الزيتون عبر حفر آبار بعمق 40 متراً، لكن المياه التي تخرج منها كلسية (غنية بكربونات الكالسيوم) تحرق الجذور، وفق المزارع محمد الصلخدي، الذي قال: "التربة هنا تحتضر.. كل شجرة تموت يخسر المزارع من عمر أرضه عشرات السنوات من الجهد والتعب".
وفيما تحالف الجفاف مع الاحتلال في قرى ريف درعا الغربي الجنوبي الذي بات تحت واقع الاحتلال الإسرائيلي بعد سقوط نظام الأسد في 8 ديسمبر/كانون الأول 2024، و"أصبح الوضع المائي للمحافظة لا يحتمل" كما يقول محمد الحفري من قرية معرية في درعا لـ"العربي الجديد"، حيث حرم المزارعون من المياه بعد أن انخفض منسوب سدي "سحم الجولان" و"عابدين" إلى مستويات حرجة، مما أثر على نحو 20 ألف دونم من الأراضي الزراعية في المنطقة، عدا عن قيام الاحتلال الإسرائيلي بتخريب الشبكات المائية وتعطيلها.
ووسط هذا المشهد القاتم، تبرز مبادرات مجتمعية للحد من المخاطر. ففي قرى أخرى كقرية خبب في درعا، عاد الناس للاعتماد على الآبار النبطية والرومانية إذ حوّل المزارعون مقابر وآبارا أثرية إلى خزانات مياه جوفية، حيث يجمعون مياه الأمطار الشحيحة عبر قنوات بدائية حفروها بأنفسهم.
أما في السويداء، الشهيرة بإنتاج الكروم والتفاح، فقد تحولت مأساة المزارعين لهذا الموسم إلى رمز للكارثة. ويقول عمر المفادي أحد أصحاب البساتين لـ"العربي الجديد" والذي يمتلك نحو 200 شجرة تفاح وأشجار فواكه أخرى في بستانه، إن الجفاف وقلة الثلوج وتدني مدة ساعات الصقيع إلى أدنى من تسعين ساعة هذا العام أثرت تحديداً على إنتاجية أشجار التفاح، فيما لم ينتج العنب ثمراً ولا حتى أوراقاً كافية.
وأضاف أن "الشجرة تحتاج 120 لتر ماء يومياً خلال فصل، وثمن الماء وحده يفوق ثمن المحصول". كما بات المزارعون يعانون من تكاليف مضاعةف لمستلزمات الزراعة. ووفق المفادي فإن سعر كيس السماد الذي كان يباع بـ 15 ألف ليرة سورية عام 2020 قفز اليوم إلى 200 ألف ليرة للنوعيات منخفضة الجودة. وقال: "هذه القفزات الفلكية تخلق معادلة مستحيلة، تكلفة العناية بدونم تفاح تصل إلى ملايين الليرات، وبالكاد يغطي المحصول تكاليفه".
وفي ظل شح المياه وارتفاع درجات الحرارة وسط التغير المناخي، لجأ البعض في السويداء إلى "زراعة الظل" تحت أشجار السرو المعمرة وفي المغارات والغرف والبيوت المهجورة وأحيانا في خزانات المطابخ، فضلا عن الاهتمام بأنواع معينة من المزروعات التي تدر دخلاً. وقال المزارع فراس حرب لـ"العربي الجديد"، إن هذه الأنواع من الزراعات لا تحتاج سوى 20% من مياه الخضروات، كالفطر والنباتات العطرية، كما أنها تباع للصيدليات التي تركب أدوية عشبية، وتؤمن مصادر دخل معقولة".
والأكثر إثارة هي مشاريع "الزراعات الأثيرية" التي بدأ يطلقها بعض الشبان بمساندة منظمات أو جمعيات خيرية أو بمجهودات فردية، والتي تبرز أهميتها بكونها لا تحتاج لمساحات واسعة ولا مياه كثيرة، حيث بدأ الكثير منهم باعتماد زراعة الأسطح باستخدام الأنابيب البلاستيكية العمودية والأفقية.
ويقول المهندس الزراعي عصام حمندي لـ "العربي الجديد" إن من يريد الاستمرار بالعمل في الزراعة في السويداء مستقبلاً، وفي ظل تغير المناخ والتصحر الذي طاول مساحة واسعة من المحافظة، عليه اتباع هذه الأنواع من الزراعات فهو المستقبل الأفضل للزراعة في مناطقنا. ويحذر حمندي من استمرار معدلات التصحر الحالية، موضحاً "سنفقد 65% من الأراضي القابلة للزراعة في درعا والسويداء خلال 5 سنوات".
ورغم كل هذه الجهود المجتمعية لإيجاد حلول، يبقى غياب الدعم الرسمي هو الوجه الأبرز للمأساة. ويقول مصدر من مديرية الزراعة في السويداء لـ"العربي الجديد"، والذي فضل عدم ذكر اسمه إن "ميزانية دعم القطاع الزراعي منذ أعوام لا تتجاوز 2% من الاحتياجات الفعلية، فيما لم يتم تخصيص دعم هذا العام" حيث كان يتم مساعدة الفلاحين بالأسمدة والبذور المعدلة وراثياً والتي تتحمل تغير المناخ، أما اليوم فقد جرى ترك الفلاح بمفرده.

Related News
