
لا تتودد القصة القصيرة في غزة، ولا تطرق الأبواب بحثاً عن إعجاب، بل تُكتب بعزة نفس، وتنتظر من يقرأها بصدق. وعندما تجد صدى، تفرح كأطفال المخيم الحفاة، وتواصل شقّ طريقها في جسد الزمن الفلسطيني. ومنذ سبعينيات، وثمانينيات، وتسعينيات القرن العشرين، شكّلت تجارب القصاصين الغزيين مادة أدبية ألهمت كتّاب القصة القصيرة في الضفة الغربية، ولا يزال هذا التأثير قائماً حتى اليوم.
يتذكر الجميع المقولة الشهيرة للقاص الغزي الراحل غريب عسقلاني، التي لخّصت مكانة غزة السردية: "غزة تصدّر البرتقال والورد والقصة القصيرة". ثمة أسماء بارزة من غزّة حفرت إسهاماتها في ذاكرة القرّاء والنقاد؛ منهم من رحل، ومنهم من لا يزال يواصل العطاء. من الراحلين نتذكّر: غريب عسقلاني، ومحمد البطراوي، ومحمد أيوب، وزكي العيلة. ومن المستمرين في الكتابة: عبد الله تايه، ومحمد نصار، وتيسير محيسن، وعمر حمش، وآخرون.
يشير مؤرخو السرد الفلسطيني إلى مجموعة "مسارح الأذهان" للمترجم والكاتب خليل بيدس (من الناصرة) بوصفها أول تجربة قصصية فلسطينية مكتملة. ومنذ الخمسينيات والستينيات، بدأ يتبلور المشهد القصصي الحديث مع كتّاب مثل: جبرا إبراهيم جبرا، وسميرة عزام، وغسان كنفاني، ومحمود سيف الدين الإيراني، وآخرين.
لاحقاً، برز جيل جديد بآفاق سردية مختلفة، مثّله: محمود شقير، وماجد أبو شرار، وعادل الأسطة، وأكرم هنية، وحزامة حبايب، وتوفيق فياض، وغريب عسقلاني، ويحيى يخلف، وزكي العيلة.
تبعهم جيل أكثر تحرراً وجموحاً، كتبَ بلغة جديدة، وركّز على البوح الشخصي، والانغماس في المشاعر الذاتية. جيل كتب خارج القوالب، وفتح أفقاً جديداً للسرد الفلسطيني، حيث لم يكن من السهل التعبير عن الذات في أجيال سابقة.
جيل التسعينيات، أو ما بعد أوسلو، تمثّله أسماء مثل: صالح مشارقة، وطلال أبو شاويش، ورجب أبو سرية، ورجاء بكرية، ومالك ريماوي، ونائل أبو دية، وصفاء عمير، وباسمة تكروي، وإيمان البصير.
أما جيل ما بعد التسعينيات، فقد انفجر مع ظهور وسائل التواصل الاجتماعي، وتميّز بسياقات وأساليب جديدة. من أسمائه: أحلام بشارات، ومحمد غنيم، وشروق دغمش، ويامن نوباني، ووليد العقاد، وخليل ناصيف، ومهند يونس، وعامر المصري.
حضرت غزة سردياً في كافة الأجيال والمناطق الفلسطينية
هكذا يمكننا رسم خريطة لأجيال السرد الفلسطيني. ومن يتابع هذا التاريخ يلاحظ أن غزّة كانت حاضرة سردياً في كل الأجيال، وفي كلّ المناطق الفلسطينية. نصها يُكتب دائماً بألم حقيقي، مثقّف، مفعم بالحياة، بلا افتعال أو زخرفة لغوية مجانية. شخصيات القصص فيها حقيقية إلى حدّ أنك قد تقول: "هذا جاري أبو فلان!" أو "هذا أنا، والله!".
اللغة خالية من الخطابة. الكاتب الغزي يفرّق بوضوح بين التظاهر السياسي والكتابة الأدبية. الحرف يؤدي وظيفته في مكانه الصحيح، والقصة ليست استعراضاً ولا دعاية؛ بل كيان فني مستقل.
في السبعينيات، برز القاص غريب عسقلاني بمجموعة "الخروج عن الصمت" (منشورات البيادر، 1979)، التي رسّخت فن القصة القصيرة في غزّة. ورافقه في هذا الجيل: عمر حمش، وعبد الله تايه، وزكي العيلة، ومحمد أيوب. وقد مثّلت هذه المجموعة نقلة في الطرح الاجتماعي والوطني بأسلوب فني بعيد عن الشعارات.
في الثمانينيات، لمع اسم زكي العيلة بمجموعته "الجبل لا يأتي" (دار الكاتب)، التي امتازت بشاعرية عالية لم تضعف حبكتها، بل زادتها تماسكاً وتأثيراً، ومهدت لحركة قصصية نشطة في غزة.
أما في التسعينيات، فقد شهدت القصة تطوراً آخر مع تيسير محيسن، الذي كتب القصة القصيرة جداً، ونشرها في مجلة عشتار التي رأس تحريرها الشاعر عثمان حسين. وقد أثارت هذه التجربة تساؤلات حول هذا الشكل القصصي الجديد على الأدب الفلسطيني.
مع بداية الألفية الثانية، تزامناً مع اندلاع الانتفاضة الثانية، ظهرت أنماط سردية جديدة. منها ما اتسم بالغضب الواقعي المشحون بالفن، ومنها ما اتجه إلى النفس واكتشاف الذات، أو إلى الغرابة والفانتازيا، أو إلى التاريخ بوصفه قناعاً لأسئلة الحاضر.
في هذا السياق، ظهرت تجربة القاص مهند يونس (المنتحر لاحقاً) من خلال كتابه "الآثار ترسم خلفها أقدامنا" (دار الأهلية، عمّان، 2018)، الذي نال "جائزة الكاتب الشاب" من مؤسسة عبد المحسن القطان. أثار هذا الكتاب اهتمام القرّاء والنقاد، لما حمله من جمالية عالية ونبرة شخصية باذخة الوجع. القصص، وعددها 30، كُتبت بضمير المتكلم، وتغوص في وحدة الإنسان وتعاسة وجوده في عالم قاسٍ لا يرحم.
مع تصاعد حرب الإبادة المتواصلة على غزّة، ومشاهد القتل اليومية التي تُبثّ حيّة أمام العالم، برزت عشرات الأسماء الجديدة، تحمل هواجس ولغة مغايرة. المؤلم أن بعض هؤلاء استُشهد، مثل الكاتبة هبة أبو ندى، وآخرين فقدوا عائلاتهم كاملة، كما حدث مع الكاتبة إلاء قطراوي.
وفي هذه المحرقة، تبرز تجربة الشاعرة نعمة حسن بوصفها نموذجاً للكتابة تحت النار، إذ توازن في نصوصها بين الفن والدم، وتلقى كتاباتها متابعة يومية من قرّاء حول العالم.
* كاتب من فلسطين
