
من الصعب الخروج بخلاصاتٍ واضحة ونهائية عن الحرب الإيرانية الإسرائيلية الماضية، في ظلّ عدم اكتمال الصورة بشأن حدود النصر والهزيمة فيها، وعلاقة ذلك بالصراع الجيوسياسي في الشرق الأوسط. بيد أن الخلاصة الأكثر دلالةً تبقى مركزيةُ التحالف الأميركي الإسرائيلي في رسم مختلف ديناميات الإقليم، التي تمثّل شبكة النفوذ السياسي والعسكري والاقتصادي الأميركي عنوانها الأبرز.
لم يكن دخول الولايات المتحدة خطّ الحرب مجرّد تدخّلٍ خاطفٍ ومركّزٍ لتقديم العون لحليفها، بقدر ما كان خطوةً مدروسةً لإعادة موضعة هذا النفوذ ورسم أولوياته. وهو ما يعكس أهمية التحالف الأميركي الإسرائيلي بالنسبة للمشروع الأميركي لقيادة العالم. وكشفت الحرب أن دولة الاحتلال، على الرغم من تفوّقها الاستخباراتي والعسكري، تفتقد خبرة حروب الاستنزاف الطويلة. وإذا كانت قد نجحت في استهداف قيادات عسكرية عليا وكفاءات علمية إيرانية، وضربِ مواقعَ عسكريةٍ ونوويةٍ داخل الجغرافية الإيرانية، فإنها أخفقت في شلّ القدرات العسكرية الإيرانية وتحييدها، ما يؤكّد أن خوضها حروباً طويلةً يبقى محفوفاً بمخاطر جيوساسية، ما لم تحظَ بدعم عسكري أميركي قادر على إحداث الفارق في أيّ مواجهة عسكرية تخوضها.
ينبني التحالف الاستراتيجي الأميركي الإسرائيلي على أسس أيديولوجية وسياسية. فمن جهة، يمثّل التيّار الإنجيلي الأميركي المحافظ أكبر داعم لدولة الاحتلال في مواقع صناعة القرار السياسي. وهو الدعم الذي يبدو أن اليمين الديني الإسرائيلي (المتطرّف) يسابق الزمن لاستخلاص عائداته السياسية، قبل أن يتبدّل (في أيّ لحظة) ميزانُ القوى السياسي داخل إسرائيل، ولو أن ذلك يبقى مُستبعَداً، على الأقلّ في المنظور القريب، ـبعد أن أحكم هذا اليمين قبضته على مفاصل السلطة. ومن جهة أخرى، تعي الولايات المتحدة الأهمية الاستراتيجية لإسرائيل في إقليم مضطرب مثل الشرق الأوسط. من هنا، يشكّل ضمانُ أمنها وتفوّقها العسكري أولويةً استراتيجيةً، تحظى بإجماع الطبقة السياسية الأميركية على اختلاف مكوّناتها.
لقد كان سقوط نظام الشاه في إيران (1979) تحدّياً للسياسات الأميركية ومدى قدرتها على حماية حلفائها. ومع الصعود السياسي للثورة الإسلامية الإيرانية، وتمدّدها في الإقليم، كان الوزن الاستراتيجي لإسرائيل يزداد أهميةً في مختلف مواقع القرار الأميركي، وهو ما كان يُترجم بتزويدها بأحدث ما تنتجه الصناعة العسكرية الأميركية.
أكّدت الحرب الإيرانية الإسرائيلية مركزيةَ هذا التحالف بالنسبة إلى المصالح الأميركية في الإقليم والعالم؛ لقد قدّمت إسرائيل اللحظةَ التاريخيةَ التي كانت تنتظرها الولايات المتحدة لتستعرض قوتها العسكرية المدمّرة أمام روسيا والصين، وهي تضرب المنشآت النووية الإيرانية الثلاث المعلومة. صحيح أن الهدف المُعلَن من دخول الولايات المتحدة خطّ الحرب كان تفكيك المشروع النووي الإيراني، أو على الأقلّ تعطيله لسنوات أخرى، وإضعاف القدرات الصاروخية لطهران بما يضمن أمن إسرائيل، إلا أن الهدف الاستراتيجي من استهدافها إيران كان إعادةَ رسم شبكة النفوذ الأميركية في الإقليم، وذلك بتحييد أيّ مصدر تهديدٍ للكيانية الإسرائيلية.
كان "7 أكتوبر" (2023) تحدّياً أمنياً وسياسياً ووجودياً لهذه الكيانية، وعلى الرغم ممّا حققته دولة الاحتلال من مكاسب عسكرية في غزّة وجنوب لبنان، إلا أن نخبها تواجه أسئلةً حارقةً بشأن وجودها ومستقبلها، لا سيّما في ظلّ خسارتها طيفاً عريضاً من دعم الرأي العام الغربي. لقد فشلت إسرائيل في استعادة قوة الردع التي اعتمدتها في العقود المنصرمة، وسقطت أسطورةُ جيشها الذي لا يقهر، وباتت الهجرةُ العكسية (من داخلها) هاجساً يقضّ مضجع ساستها، وسجّلت اسمها ضمن السجل التاريخي الأسود للدول التي ارتكبت جرائم إبادة جماعية وتطهير عرقي، هذا فضلاً عن عودة الجذور التاريخية للصراع إلى واجهة النقاش في السوشيال ميديا العابرة للحدود، بما ينبئ بإمكانية إعادة صياغة الوعي العالمي بالقضية الفلسطينية باعتبارها قضية شعب مظلوم، اغتُصبت أرضه بتواطؤ الدول الغربية الكبرى.
ذلك كلّه تُدركه الطبقة السياسية الأميركية. ولذلك يُتوقّع أن ينتقل التحالف الاستراتيجي الأميركي الإسرائيلي إلى طورٍ، يغدو بموجبه المحرّكَ الرئيسَ في رسم السياسات الإقليمية والدولية، وتوجيهها بما يخدم المصالح الأميركية والأمن القومي الإسرائيلي على حدّ سواء.

Related News

