
كان من المفروض أن تعرف الحروب والأزمات في منطقة الشرق الأوسط انخفاضاً في حدّتها، وتراجعاً في تداعياتها، وانحساراً في اندفاعها وتوحّشها، بالنظر إلى وعود أعلنها دونالد ترامب في حملته الانتخابية الرئاسية. واستناداً، أيضاً، إلى التصريحات المُغرية التي أطلقها، وأكّد فيها أن الحروب المندلعة في أرجاء العالم ما كانت لتحصل لو كان هو رئيساً لأميركا، وما كان الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، ليفكّر في اجتياح أوكرانيا، ولما كانت حركة حماس قامت بعمليتها العسكرية ضدّ إسرائيل في 7 أكتوبر (2023). لكن ما حصل، بعد انتخاب ترامب رئيساً للولايات المتحدة لولاية ثانية، أن حرب الإبادة الإسرائيلية تصاعدت بشكل جنوني في قطاع غزّة، وازداد الوضع خطورةً والتباساً وتعقيداً عندما كشف مخطّطه السوريالي لتحويل القطاع "ريفييرا" وهميةً، بعد أن جعل منها جيشُ الاحتلال أرضاً غير صالحة للحياة. وكعربون حسن نيّة ووفاء للأصدقاء، وتقديراً لهم، كان من الطبيعي أن تتوّج صفقاته مع بعض الدول العربية (بمئات مليارات الدولارات) بتفاهمات تفضي إلى وقف حرب الإبادة الجماعية والتطهير العرقي. لكن ترامب الذي تحوّل حاكماً مطلقاً، ليس للولايات المتحدة وحسب، بل للعالم برمّته، كانت له حسابات أخرى، وقراءة مغايرة، فالوفاء لن يكون لغير إسرائيل حليفاً استراتيجياً وصديقاً أزلياً ومشروعاً استعمارياً إمبريالياً مدمّراً، يُوظَّف وفق أجندة الولايات المتحدة ومصالحها أولاً، ولا قيمة لتلك الصفقات الخيالية مع دول عربية عندما يتعلّق الأمر بإسرائيل وحماية أمنها، وتحقيق تمدّدها وتوسّعها في المنطقة، بصرف النظر عن النتائج وردّات الفعل، وما يقد ينجم عن ذلك من استياء وغضب في معسكر حلفائه من العرب، علماً أن ترامب يؤمن بأن القوة هي المعيار (والأساس) في بناء العلاقات الدولية، والقانون (كما يفهمه هو) لن يكون سوى أداة لتأطير سلسلة من العمليات المالية، كلُّ طرف فيها يدافع عن مصلحته.
وحتى عندما جاء مبعوثه الخاص، ستيف ويتكوف، إلى الشرق الأوسط، في مسعىً لإعادة الأسرى الإسرائيليين، وبعد جولات عديدة، انتهت مساعيه إلى الفشل في الوصول إلى اتفاق وقف لإطلاق النار، رغم أن حركة حماس وافقت على صفقة شاملة، تتخلّى بموجبها عن إدارة الحكم في غزّة، فتنجز هذه الصفقة تبادل الأسرى وتنهي الحرب، وتمهّد لإعادة إعمار القطاع. لكن ويتكوف عدّل بعد اجتماعه مع مسؤولين مقرّبين من بنيامين نتنياهو المقترحات التي تضمّنتها الصفقة، لتتناسب مع أهداف الحكومة الإسرائيلية في إطالة الحرب، لاعتبارات خاصّة برئيس حكومتها وشركائه في الائتلاف الحاكم.
اتصفت تصريحات ترامب، منذ وصوله إلى البيت الأبيض للمرّة الثانية، بالتناقض والتقلّب
اتصفت تصريحات ترامب، منذ وصوله إلى البيت الأبيض للمرّة الثانية، بالتناقض والتقلّب، فهو يدعو إلى وقف الحروب ويعبّر عن رغبته في بناء عالم من السلم والأمن، وفق منظوره هو، أي السلم الذي يعني عنده استسلام (وإذعان) أطراف يعتبرها مارقةً وغير منخرطة في الأجندتين، الأميركية والإسرائيلية. وشكّلت تصريحاته ومواقفه خلال الحرب الإيرانية الإسرائيلية الماضية أقصى درجات التناقض، وحتى عدم اللياقة والمسؤولية، فقد تبنّى، في البداية، الحلّ الدبلوماسي لتسوية الخلاقات بشأن البرنامج النووي الإيراني، وهو ما وثقت فيه طهران، وبنت عليه قراءتها تطوّر الأحداث. لكنّه عملياً ساعد في تحقيق عنصر المفاجأة في أثناء الضربة التي وجّهتها إسرائيل لإيران. ففي الظاهر، طالب إسرائيل بعدم المهاجمة، لكنّه كان يعرف أنها ستهاجم، لأن الإدارة الأميركية هي من يشرف على الخطط، وهي من يحدّد الأهداف ويعطي الضوء الأخضر لأيّ هجوم، ويوفّر الدعم العسكري واللوجستي والاستخباراتي. إذن، أين هي مصداقية ترامب رئيساً للقوة الأولى في العالم؟
هناك مشكل أخلاقي حقيقي يطرح نفسه موضوعياً، إذ يتعامل ترامب مع كلّ الملفّات الشائكة، وجميع الأزمات العالقة، بعقلية رئيسٍ له الحقّ المطلق بالتصرّف في العالم كما يشاء، ومن حقّه أن يفرض العقوبات والرسوم الجمركية، والمطالبة بأراضي الغير لتصبح في ملكية الولايات المتحدة، ومن حقّه أن يهدّد ويفرض أجندته، وهذا ما حدث في قمّة حلف شمال الأطلسي (ناتو)، التي احتضنتها لاهاي (24 يونيو/ حزيران الماضي)، فقد فرض ترامب، بعد ضغوط، وبكامل العجرفة والثقة في النفس، قراراً يجبر الدول الأعضاء في الحلف على رفع الإنفاق الدفاعي إلى 5% من الناتج المحلّي الإجمالي بحلول عام 2035. وتبعاً لذلك، أشاد بهذه الاستجابة الفورية، وقال لرئيس الوزراء الهولندي ديك شوف: "أعتقد أن القمّة كانت رائعة... كانت نجاحاً كبيراً".
يتعامل ترامب مع الملفّات الشائكة، والأزمات العالقة، بعقلية رئيس له الحقّ المطلق بالتصرّف في العالم كما يشاء
ومن يتابع المؤتمرات الصحافية (الفردية والمشتركة) لترامب، يلاحظ حجم السلطوية والشعور بالقوة، وهو يتحدّث بلغة فيها قدر كبير من النرجسية والشعبوية. وقبل مجيئه إلى قمة "الناتو" بيوم، تعمّد تسريب رسالة أرسلها إليه الأمين العام للحلف، مارك روته، يتملّق فيها الأخير بشكل غير مسبوق ترامب. ما تضمّنته هذه الرسالة اعتبرته وسائل إعلام كثيرة إهانةً كبيرةً للأعراف الدبلوماسية، وانبطاحاً أوروبياً كاملاً أمام ترامب. وحكى لي صحافي، تولّى تغطية أشغال القمّة لفائدة فضائية عربية، إن الصحافيّين وجدوا أنفسهم في حالة تخبّط، وفي صراع مع الوقت، بسبب كثرة التصريحات التي كان يدلي بها ترامب، ولوفرة عدد المؤتمرات الصحافية التي كان يعقدها. وفي المؤتمر الصحافي الختامي، الذي تواصل حتى منتصف الليل، فاجأته صحافية أميركية بالسؤال: "خاطبك الأمين العام لحلف شمال الأطلسي، مارك روته، بعبارة (daddy)"، فانفجر كلّ من كان في القاعة ضاحكاً. نظر ترامب ملياً إلى الصحافية، وردّ عليها: "مارك روته صديق عزيز، لكنّه إذا تصرّف تصرّفاً آخر سأضربه". ورغم مسحة الدعابة التي غلّف بها ترامب كلامه، إلا أنه في العمق (وهذه الحقيقة) يتعامل مع قادة دول الاتحاد الأوربي بفوقية، ويعتبرهم موظّفين تحت إمرته، وعليهم أن يأتمروا بأوامره.
انفضّت قمّة حلف شمال الأطلسي، وغادرت الوفود مدينة لاهاي الوديعة. وما بقي في أذهان الصحافيين، الذين تابعوا القمّة، تلك الصورة الكاريكاتورية والمعبّرة لترامب الأب والمعلّم، ومعه قادة الحلف أطفال أشقياء في مدرسةٍ يفرض عليهم قانونها الداخلي أعلى درجات الانضباط واحترام التعليمات.

Related News
