في ذكرى محمّد مستجاب
Arab
1 week ago
share

أحياناً يحسّ واحدنا أن الدقائق في ثقل الحديد، والساعات في ثقل الجبال، وإذا بعشرين سنة تمرّ على غياب الكاتب محمد مستجاب (1938- 26/6/2005) وكأنّها غيمة صغيرة مرّت بلطفٍ في يوم ما. يكون الزمن أحياناً جبلاً ثقيلاً، وأحياناً يكون في خفّة غمامة، والراحل هناك لا يتململ ولا يشاكس، ولا يرسل لنا أيّ إشارة بثقل الوقت أو خفّته عليه، وكأنّه أقسم أن يتركنا هكذا نلعب مع ظلال الزمن وإشاراته من دون أن نصل إلى ما يشفي الغليل.

غيمة من السنوات تعبر بخفّة، وساعات من الانتظار لا تنتهي، لا أستطيع أن أتذكّر مستجاب إلا وفي خلفية الذكرى ضحك يهدر، ضحك يلغي المسافات دائماً ما بينك وبينه، ضحك صاخب، حتى إن كنت في خصام معه، وتجلس بالقرب منه في مكان ما. مستجاب يهدم كلّ خصام، حتى بشتيمة تزيح ما بينك وبينه، من دون ذكر لما كان. دائماً مع مستجاب ينمحي سبب الخصام تماماً، وتبدأ معه الرحلة من جديد، كي يكون هناك ذلك الخصام الآخر، أو ذلك الزعل الآخر لو استطعت، وغالباً لا تستطيع، وهو في كلّ مرّة يعرف معدن المتخاصم، فيكفّ تماماً عن معاتبة غير المتسامحين، ويتمادى أيضاً في محبّته وضحكه ومشاكساته، وخاصّة مع البلهاء أو محدودي الموهبة، أو مع الذي لا يعرف التسامح (معه خصوصاً)، أمّا لو كنت من المحبّين، فأنت في منزلة أخرى، وإلى حين بالطبع.

طاقة نادرة على سرعة البديهة والردّ والألفة، وطاقة كبيرة على الغضب لو داس عليه أحد أو استخفّ به، أما لو اقتربت ممّا يكتبه بشيء، فعند ذلك يساعدك الله في وعدك الذي رميت نفسك فيه، فقد أدخلت نفسك (من دون أن تدري) في ثأر عزيز وطويل.

طفل جميل يصنع أهرامات الصداقة والمودة ولو بالرمال أحياناً، على شاطئ المعرفة والكلام والبحر وتعب الفقراء، والشمس والنباتات وهي تتحاشى الشمس، وهي طالعة في قلب النبت، وصاحب الثأر وهو يخطف بعينه المكان الموحش في الجبل، والأرملة وهي تطعم طيورها وتنتظر الغائب والقمر حينما يكون هلالاً، وحينما تميل زهرة عبّاد الشمس بعنقها إلى الأسفل، وترتخي بعد المغارب منتظرة قدوم الشمس من الشرق.

فلّاح بهمّة كاتب وصنايعي وعامل في السدّ العالي، ومهن أخرى أتقنها لا حصر لها كالطباعة على أفيشات الأفلام قديماً، ولكن حينما يمسك بالقلم يلامس كلّ أحلامه التي ضاعت، وعنفوانه الذي لازمه حتى آخر لحظاته بمستشفى القصر العيني حينما قال لهم: "كفى أريد أن أموت في غرفتي".

هو عمدة أدب ساخر، يمتلك كنوزاً من السخرية التي لم تبطل مفعولها سخافة المسلسلات أو الأفلام الخفيفة، خفّة صنّاعها، وأحياناً يشتمك كي يحبّك أو يتوادّ معك، ويقسو عليك أيضاً كي يعرف معدنك، ثمّ يبتعد عنك هوناً، كي يعرف مدى صدقك.

في حضرته أنت غير محصّن تماماً، حتى إن كنت صاحب سطوة ما، حتى إن كانت لديك قصّة جديدة قد كتبتها ومازال دوار العبقرية يأخذك بعيداً، وقد جاء حظّك معه. أتذكّر ذلك كأنّه من شهور، فما أخفّ السنوات، خاصّة حينما نرميها وراء ظهورنا ونخرج من معارك الأدب بجروح هنا أو هناك، ونبتسم على الماضي، وهو يفتح لنا بعض نوافذ النشر قدر الإمكان، أو وهو يقدم لنا النصائح كي نستمرّ ولا نسقط في الطريق، أو وهو يستمع إلى بعض قصصنا محذّراً من هشاشة اللغة أو ضعف البناء أو الجري وراء الموضات. كانت في يده "عصا العمودية"، وأحياناً كان يهوش، وأحياناً كان يقرأ مثلنا، لم يكن يخجل من ذلك، بل كان يفعل ذلك كطفل يدخل معنا سباق الإعجاب في بيته.

أتذكّر تلك الليلة حينما قرأت قصّتي "دميانة"، فإذا به ينادي على ابنه محمّد، الذي كان يافعاً في تلك الأيام، وقد صار الآن كاتباً، ويقول آمراً محمّداً: "اقلب الرفّ الأخير يا محمّد وهات لي القصة الفلانية، كي أعلّمه الأدب"، يبتسم المرحوم الشاعر حسن فتح الباب، ويُخرج من جيبيه الفستق، ويعود محمّد بالقصة كما قال له مستجاب. يسكب فتح الباب الفستق في الطبق، فيقول مستجاب ضاحكاً: "ولا حد يلمس الفستق إلا حينما أنتهي من قراءة القصص، كي يتعلّم العيال"، يبتسم فتح الباب، ويطول ليل الكلام.

الغريب أنني لم أضمّ "دميانة" إلى أيّ من مجموعاتي القصصية، ولا أعرف السبب... دعائي لك يا مستجاب بالرحمة، فقد كان باب بيتك بالعمرانية واحة لألفة الأحباب حينما تتجهّم القاهرة.

Related News

( Yemeni Windows) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

All rights reserved 2025 © Yemeni Windows