
توقّفَ إطلاقُ النار بين إيران وإسرائيل، وانشغل الجميع بسؤال: هل قضت الضربات الأميركية الطنّانة ضدّ المواقع النووية الإيرانية على قدرات إيران؟ هل بقي اليورانيوم المخصّب أم لن يبقى؟ هل ينجح النظام الإيراني بإنقاذ نفسه بتحويل طموحه النووي قضيةً وطنيةً جامعةً ومستدامةً؟... ثمّة لائحة رديفة من أسئلة أخرى: هل إيران متمرّدة على وكالة الطاقة الذرية الأممية، أم ستعود إليها، وبشروطها؟ هل سترفض إيران الصفقة الترامبية (مليارات مقابل تسليم النووي والباليستي)، أم تساوم عليها؟ هل ستخوض إيران حملةً أمنية ضدّ جواسيس إسرائيل من مواطنيها، وتتخلّص (في طريقها) من معارضيها؟ هل ستتعرّض إيران لعدوان عسكري ثانٍ، أم لا؟
لا يختلف لبنان عن سورية بتعدّد سلطاته، والمطلوب منه اليوم أن يفصل مع عهد حزب الله القديم. ولكنّه عاجز عن ذلك
في هذه الأثناء، غابت فلسطين والقدس، وكلّ أدبياتٍ اشتغلت عليها إيران أربعة عقود. غابت عن عقولنا وإعلامنا وهمومنا. طوال 12 يوماً من تلك الحرب سقط يومياً في غزّة عشرات وهم يبحثون عن لقمة عيش عند وكالة مساعدات أميركية إسرائيلية، فيما كانت أنظارنا متّجهةً نحو الجبهة الجديدة. المذبحة المستمرّة في غزّة، وسلاح القتل يتفنّن، لكنّ غزّة ليست جبهة، لا تستحقّ دوراً في المشهد. هي مجرّد قبر مفتوح على السماء لأناسٍ لن تنتهي مشكلتهم إلا بقتلهم جميعاً أو بطرد من نجا منهم، وفي كلّ الأحوال، محوهم كأنّهم لم يكونوا ولا كانت لهم حياة هنا.
بعيداً قليلاً من غزّة، في الضفة الغربية. هذه أيضاً بلا دور، "تحكمها" سلطة وطنية فاسدة، متعاونة مع السلطة الإسرائيلية ضدّ أبنائها، تُقضَم يومياً أراضي الضفة، ويُقتل فلسطينيون على أمل أن يضيق ناسُها فـ"يطفشوا" هم أيضاً نحو بلاد الله الضيّقة. تبقى سورية. حاكمها الجديد أحمد الشرع فهمَ المعادلة. منذ لحظة إسقاطه بشّار الأسد، أغارت إسرائيل على كلّ مخزون بلاده من سلاحٍ في القواعد والثكنات والمخازن. اخترقت الحدود الجنوبية، بما فيها القنيطرة وجبل الشيخ، وتوغّلت عميقاً، قتلت وحرقت وجرّفت واعتقلت، وبقيت. وأخبار أولى، وتصريحات لترامب، نفهم منها أن ثمّة مفاوضات "سرّية" بين دمشق والإسرائيليين. ومنذ أيام، تدخل عبارة "تطبيع" مع إسرائيل في القاموس شبه الرسمي المشترك بين إسرائيل وسورية، بمعية رئيس مجلس الأمن القومي الإسرائيلي تساحي هنغبي. ولكنّ وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر وضع شرطاً صريحاً لهذا التطبيع: اعتراف سورية بسيادة إسرائيل على الجولان. ولا يختلف لبنان عن سورية بتعدّد سلطاته، والمطلوب منه اليوم أن يفصل مع عهد حزب الله القديم. ولكنّه عاجز عن ذلك. تتولّى إسرائيل المهمة، بدعم أميركي، مستعجل ومتذاك، إذ لا يخطر ببال لبنان أن هذا الجيش يحتاج أن يكون أقوى من حزب الله ومن إسرائيل. وبما أن هذا لن يحصل، فمن "المنطقي" أن تتولّى إسرائيل المهمة، فتكون حرّرتنا من حزب الله، ويكون احتلالها الجنوب وتمدّد نيرانها المستمرّ من شروط "تطبيعها" معنا.
"الشرق الأوسط الجديد" عند نتنياهو ضمان التفوّق الإسرائيلي، وإلغاء الفلسطينيين، والتطبيع
هكذا تنقشع ملامح "الشرق الأوسط الجديد" الذي يتكلّم عنه نتنياهو، وبدرجة أقل دونالد ترامب. بل صار "الشرق الأوسط الجديد" نوعاً من "وصلة كلام"، يعني عند نتنياهو ضمان التفوّق الإسرائيلي، وإلغاء الفلسطينيين، والانخراط في النظام الإقليمي العربي، أي التطبيع. وقد اتفق أخيراً مع ترامب على الخطوط العريضة لبدايات هذا "الشرق الأوسط الجديد": إنهاء حرب غزّة في المقبل من الأيام، وتوسيع اتفاق أبراهام مع ما تبقّى من دول عربية، وتحويل غزّة "ريفييرا الشرق الأوسط" تحت سيطرة دولية.
تلك هي خطّة ذاك الشرق، إنها ليست مؤامرةً، لأنها واضحةٌ، تتقدّم بخطىً ثابتةٍ رغم تعكّر مزاج أحدهما، ترامب ضدّ شريكه نتنياهو الذي يزايد عليه باعتداده بـ"مَلَكيّته"، صاحب التاج والصولجان في هذه المنطقة. يغضب ترامب من نتنياهو لحظة، ويباركه في أخرى، فيدعو الإسرائيليين إلى إعفائه من تهم الفساد وعدم محاكمته، ولكن علينا أن نثق بأن هذه الخطّة يعتمدها رجلان يتشابهان في طبعهما السياسي. الاثنان في مصافّ القوى العظمى، لا يفهمان لا المعايير ولا القانون ولا الأخلاق، حتى الشكلية منها. تتنازعهما ميول واحدة متناقضة، عالمية من جهة وانعزالية من جهة أخرى. وفي الحالتَين ميول عدوانية، شديدة القوة ومتمركزة حول نفسها.
هل في وسعنا تخيّل ذاك "الشرق الأوسط الجديد"، المبذول من أجله هذا الجهد كلّه، ذاك الدمار كلّه وتلك الأرواح كلّها؟ كم من شرق أوسط جديد وُعِدنا به؟ وبماذا يختلف هذا الشرق عن سوابقه الفاشلة كلّها، الذي لم يفلح إلا بمراكمة الجمرات على النار؟ هل يكون شرقاً أوسطاً معتماً أم رمادياً؟ معقّداً غامضاً مقلقاً؟ هل يقضي نهائياً على حرية تفكيرنا في حريتنا، أم يكون وسط الظلام ضوءاً خافتاً يبّث الأمل، ويكون أبطاله ممّن لم يولدوا بعد؟
