سَحَرة فرعون الجدد
Arab
1 week ago
share

حين نتأمَّل مشهد الإعلام العربي اليوم، ولا سيَّما في مرحلة ما بعد الثورات، نشعر أننا نعيش إعادة إنتاج لقصّة فرعون، ولكن بلغة جديدة وأدوات أشدَّ دهاءً. ففي تلك القصّة الخالدة، لم يكن فرعون وحده في مواجهة موسى عليه السلام، بل أحاط نفسه بجوقة من السحرة؛ أولئك الذين جعلوا الحبال والعِصِيَّ تتحرّك كأنها حيّات، فسحروا أعين الناس، واسترهبوهم.

اليوم، لم نعد نحتاج إلى سحر تقليدي، إذ لدينا شاشات، وكاميرات، ومنصّات، ومؤثّرون يُروّجون الأكاذيب، وبمهارة تفوق سحرة فرعون. حيث الحقائق تُطوى، والأكاذيب تُقدَّم بوصفها يقينًا، حتى صار الكذب فنًّا، والإعلام سحرًا معاصرًا.

حين تتحوّل الكلمة إلى تعويذة

حين يفقد الإعلام ضميره لا ينقل الحقيقة، بل يصنع واقعًا بديلًا. فكم من مجرمٍ ظهر بطلًا؟ وكم من شهيدٍ صُوِّر خائنًا؟ وكم من مدينة دُمّرت على رؤوس أهلها، ثم خرج المذيع ليقول: "الجيش الباسل حرّرها"؟ هذا ليس مجرّد كذب، بل هو سحر. والسحر الذي يجعل الإنسان يرى النار ماءً، والدماء زهورًا، والاستبداد "سيادة وطنية".

الحقائق تُطوى، والأكاذيب تُقدَّم بوصفها يقينًا، حتى صار الكذب فنًّا، والإعلام سحرًا معاصرًا

في سورية، بعد أن صرخ الناس بالحرية، وواجهوا الموت بصدورٍ عارية، خرج من بيننا "إعلاميّون" ارتدَوا عباءة الثورة أولًا، ثم غاصوا في وحل التضليل لاحقًا. بعضهم قبض الثمن، وبعضهم قبض وَهْم الشهرة، وبعضهم غذّى نرجسيّته بحفنة لايكات وتعليقات.

النرجسيّة بزيٍّ إعلاميّ

من أخطر من قابلناهم في ميدان الكلمة، هم أولئك الذين يظنون أنّ آراءهم و"حقائقهم" هي الحقّ المطلق.
يتحدثون بثقة زائفة، ويحكمون على الناس والوقائع، يوزّعون الوطنية بالتقسيط، ويخوّنون من يشاؤون كأنهم أوصياء على الثورة والدم والوجع.

ويا للعجب... صاروا نجوماً في زمن الغبار، لأن الخوارزميات تُفضّل الجلبة على الحكمة، والضجيج على الصدق، والفضيحة على المبدأ.

صاروا نجوماً في زمن الغبار، لأن الخوارزميات تُفضّل الجلبة على الحكمة، والضجيج على الصدق

وهكذا، تحوّل كثير من "الإعلاميين" إلى سَحَرةٍ جُدُد، يُلقون كلماتهم على الشاشات والمنصّات، فيُرون الناس ما لا واقع له، ويغرسون الشكَّ بدل الوعي، والفتنة بدل الفهم.

خَدم السَّحرة الجدد

والأمر هنا لا يقف عند السَّحرة وحدهم. فقد ظهرت جوقة جديدة، أكثر خفاءً وأشدّ فتكًا؛ الذباب الإلكتروني. وهذه الجوقة هي عبارة عن جيوش رقمية مدرّبة، لا تكتب الحقيقة بل تُطاردها، لا تصنع الرأي بل تُشوّه من يجرؤ عليه.

وهذا الذباب لا يملك عصًا، بل يملك ألف حسابٍ وحساب مزيّف، يردّدون الأكاذيب آلاف المرات حتى يظن السامع أنها حق. إنهم خدّام السحرة، يُوسّعون تأثيرهم، ويُكمّمون الأفواه، ويُغرقون الفضاء بالفوضى.

السّحر الأخطر

إنّ أخطر ما واجه الثورات لم يكن فقط رصاص الطغاة، بل أكاذيب سَحَرتهم. أولئك الذين شُغّلت لهم المنابر، وفتحت لهم الاستوديوهات، ليَشغلوا الناس عن القضايا الكبرى، ويُحوّلوهم إلى جمهورٍ مهووسٍ بالشخصيات بدل المبادئ، وبالخلافات بدل التحرّر.

حين يفقد الإعلام ضميره لا ينقل الحقيقة، بل يصنع واقعًا بديلاً

فتنة الإعلام لا تقلُّ عن فتنة السياسة أو السلاح، بل ربّما هي الأخطر؛ لأن السلاح يقتل الجسد، أمّا الكلمة فتقتل الوعي، وتستعبد العقل، وتُمزّق الصفَّ من دون طلقةٍ واحدة.

عَصا موسى..

في قصة موسى عليه السلام، كانت عصاه هي الحقيقةَ الوحيدة وسط بحرٍ من الوهم.
عصًا واحدة التهمت أوهام الجميع، وثبّتت البصر بعد أن سُحر. ونحن اليوم في حاجة إلى "عَصا الوعي"، إلى كلمة تُقال في وجه الزيف، إلى صوتٍ لا يطلب جمهورًا بل ينطق بالحق، إلى إعلامٍ لا يطلب تمويلًا، بل يسند ثورة الضمير.

Related News

( Yemeni Windows) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

All rights reserved 2025 © Yemeni Windows