كدت أكون طفلاً في حضن أبيه
Arab
1 week ago
share

ذات صباح يوم غابر من أيام سنة 1998، كنتُ أقف إلى جانب أمي على الرصيف المقابل للفندق المسمّى حاليًا لابيرلا، في مدينة الحسيمة في المغرب. رأيت طفلًا ينزل من سيارة كانت قد رُكِنت توًّا جنب الرصيف. كان الطفل مُتجهًا نحو محلّ بقالة، لكنه تعثّر وسقط ما إن ثبّت قدميه أمام باب المحل. كان الشارع خاليًا، وكنّا أنا وأمّي نراقب الطفل رغمًا عنّا.

لم يكن لدينا ما نفعله. كنّا ننتظر حلول وقت موعدي لدى جمعية تساعد أطفالًا يعانون من نقص البصر، وكانت الفحوصات الطبية الإلزامية التي خضعت لها وقتئذ قد صنّفتني طفلاً يعاني من تشوّه في شبكة العين اليسرى. في لحظة ما، قبل أن يستجمع الطفل قواه لينهض من سقطته، كان الرجل الجالس خلف مقود السيارة قد ترجّل مُسرعًا في اتجاه الطفل. قلت لأمّي: سوف يساعده والده... وقبل أن أنهي كلامي، كان الرجل يصفع الطفل بلا رحمة، وبلا توقّف، ويسائله: لماذا تعثّرت، لماذا سقطت؟ ألا تستطيع أن ترى طريقك؟

كان الطفل يبكي ويصرخ متوسّلًا: آبابا، آبابا، آبابا، لا لا. كدت أبكي أيضا، لكنّني وقتئذ كان قد مرّ وقت طويل منذ أن رأيت فيه أبي، رحمة الله عليه.

كنت أتمنى أن أعود إلى المغرب وأرى أبي الذي لم أره منذ أن كنت طفلاً، لكن أقدار الكون كلّها تحالفت ضدّي

عاد الطفل مع الرجل إلى السيارة، ورحلا إلى حيث لا أدري. في طريقنا إلى مقرّ الجمعية، سألت أمّي:

- هل ستضربيني إذا تعثرت أو سقطت؟

- هيا يجب أن نكون أمام مقرّ الجمعية. أجابتني أمي!

- أمي أريد أن أسألك: سألني المعلم في المدرسة قبل أيّام.

- ماذا قال المعلم؟

- لقد أجبرني على الوقوف أمام التلاميذ، وقال لي ماذا يعمل والدك؟

- وماذا كان جوابك؟

لقد أخبرته بأنّ أبي كان في هولندا.. وبكيت.

لماذا بكيت؟ لقد أخبرتك بالحقيقة.

- لم أعرف ماذا أقول. الآن أين أبي؟

- اسمع، سوف يأتي أبوك ويراك، وحين تكبر يمكن أن تذهب أنت أيضًا لرؤيته أو العيش معه. لا تبك، اتفقنا!

أردت أن أخبر أحداً بأنني لن أستطيع المشاركة حتى في تشييع جثمان والدي إلى مستقرّه الأخير

مضت السنين. ظّل مشهد الطفل الذي صفعه والده حدّ البكاء يمرّ ببالي من حين لآخر. وأنا كبرت. لم أر أبي. عشت مع أمّي حتى جاء السرطان الذي شوّه كبدها حدّ الموت كما شوّه وجودي الذي صار بلا معنى بعدما دفناها ذات ظهيرة صيفية حارقة في مقبرة سيدي بوعفيف.

قبل ثلاثة أشهر، تحديدًا عندما توصلت بخبر وفاة والدي، كنت في أنتويربن (مدينة في بلجيكا)، أتمشّى وسط شارع فسيح طويل، لكنني لم أكن أعرف أين يُفترض أن أذهب. أردت أن أخبر أحدًا بأنني كنت أتمنى بعدما لقنتني الحياة دروسًا جديدة أن أعود إلى المغرب وأرى أبي الذي لم أره منذ أن كنت طفلًا في الرابعة، لكن أقدار الكون كلّها تحالفت ضدّي، وهذا سرّي الذي لم يكن يعرفه سوى الله الذي أرفع إليه دعواتي، وهمي، وسرّ حياة يُفترض أن لا تكون معي قاسية إلى حدّ هذا الدمار العظيم. أردت أن أخبر أحدًا بأنني لن أستطيع المشاركة حتى في تشييع جثمان والدي إلى مستقره الأخير. 

تعرفون ماذا كنت أتمنى؟ كنت أتمنى أن أعود إلى المغرب حقًا، لكن ليس لأفتح باب بيتي في بوكيدان الذي لم تطأه قدميّ منذ ستّ سنوات، كنت أتمنى أن أذهب إلى مقبرة سيدي بوعفيف وأخبر أمي بأنني أريد أن أخلّص نفسي من شعور يملأ صدري، وأنني أستطيع أخيرًا أن أكون طفلًا في حضن أبيه. لكن أقدار الدنيا كان لها رأي آخر.

Related News

( Yemeni Windows) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

All rights reserved 2025 © Yemeni Windows