
يتّسم مشوار الموسيقي العراقي باسم هوار بالجدية البالغة، فإلى جانب كونه عازف آلة الجوزة ومؤلفاً موسيقياً، هو باحث حرضته دراساته على تطوير آلته، فانتقل بها من المحلية إلى العالمية. وبعد أن كانت لا تعرف غير المقام العراقي، أمست تقدم إلى جمهورها طيفاً من الأنماط الموسيقية. هذا التطوّر للجوزة تطلب أن ينتقل هوار من العراق، الذي درّس فيه الآلة والنظريات الموسيقية إلى ألمانيا. هناك، أسس باسم هوار العديد من الفرق الفنية، وفاز مع إحداها، وهي "أهوار"، بجائزة أفضل فرقة موسيقية (2007)، وحصل الموسيقي العراقي على جائزة أفضل موسيقى في ألمانيا في مجال موسيقى الشعوب (2020). وللتعرف أكثر إلى تجربته، التقته "العربي الجديد" في هذه المقابلة.
كيف جاءت البداية؟
نشأتُ في بيئة فنية، محاطاً بفنون الرسم والخط والتصميم، وتعلقت بها جميعاً، لكنّ شغفي بالموسيقى كان أكبر، خاصة في آلتَي الكمان والعود. وفي سن الخامسة عشرة، سنحت لي الفرصة أن ألتحق بمعهد الدراسات النغمية في بغداد. كانت هذه رحلتي الأولى بعيداً عن أهلي، إذ غادرت مسقط رأسي في جنوب العراق، لأبدأ فصلاً جديداً من حياتي، حاملاً معي شغفي وتطلّعي إلى آفاق فنية أرحب.
طوّرت آلة الجوزة التي كانت قاصرة على عزف المقام البغدادي. ما الفروقات بين نسختك والجوزة العادية؟
آلة الجوزة في العراق تُصنع من قشرة جوز الهند. من هنا جاءت تسميتها، إلّا أن اسمها الحقيقي الكمانة، وهو مشتق من الكلمة الآرامية كفان التي تعني قوس الرماية، ثم تطورت اللفظة لاحقاً إلى كمان، وهي واحدة من أقدم الآلات الموسيقية في بلاد وادي الرافدين، فيعود تاريخها ربما إلى أكثر من خمسة آلاف عام. وكما هو الحال مع بقية الآلات، شهدت الجوزة تطوراً عبر العصور، فرافقت موسيقى المقام العراقي، ووجدت طريقها إلى بلدان أخرى مثل: إيران وتركيا وأذربيجان، وهناك أُلحقت بالموسيقى التقليدية الفلكلورية، إلى جانب عزفها المؤلفات الموسيقية الحديثة.
وخلال دراستي في معهد الموسيقى في بغداد، نشأت لديّ رغبة في تطوير الجوزة، حتّى تُمسي قادرة على أداء أنماط موسيقية متنوعة وليس اللون التقليدي فحسب. في سبيل ذلك، أجريت بدايةً تعديلات دقيقة، بلغت حدّاً أن من لا يعرف تفاصيل الجوزة لم يكن ليتعرف إلى أي اختلاف فيها. مع هذا، كانت التغييرات جوهرية. استبدلت بعد ذلك، أثناء رحلة التطوير التي بدأت منذ عام 1990، الصندوق الصوتي التقليدي المصنوع من قشرة جوز الهند بصندوق خشبي، مستعيداً شكل الآلة الأصلي، فمن خلال البحث والدراسة، أيقنت أن الجوزة صُنعت تاريخياً من الخشب المحفور، وليس من ثمرة جوز الهند، التي لم تكن متوفرة في منطقتنا.
أصبحت الجوزة أو الكمانة بهذا أكثر قدرة من أي وقت مضى على أداء الموسيقى التراثية الشرقية بجودة عالية، وأتاحت لها التعديلات استيعاب مختلف الأنماط الموسيقية العالمية، وبذلك لم تعد الجوزة مجرد آلة محلية، بل أصبحت جسراً موسيقياً بين الثقافات. وفي عام 2003، وثقت إحدى المجلات الألمانية المتخصّصة في تسجيل الحقوق العلمية والاكتشافات الموسيقية، جميع تعديلاتي على الجوزة تحت اسم "جوزة موديل باسم هوار".
في لقاء سابق، ذكرتَ أنّك استعملت الدراسات والنوتات المتعلقة بآلة الكمان في تطوير الجوزة. ما الذي حرضك على هذا الربط؟
خلال دراستي للموسيقى الكلاسيكية، لفت انتباهي مدى تقدم تقنيات العزف على الكمان مقارنةً بالجوزة. هذا التقدم جاء نتيجة لتاريخ طويل من التطوير، جعل الآلة مرنة وقادرة على التعبير الدقيق عن المشاعر والتدرّجات الموسيقية المختلفة، ودفعتني رغبتي في تحرير الجوزة من قيودها التقليدية إلى الاستفادة من هذه المادة الثرية. من خلال دراسة نوتات الكمان، رصدت تقنيات متقدمة، مثل استخدام الأصابع بمرونة أكبر لتغطية مساحة نغمية أوسع، ما أتاح عزف ألحان أكثر تنوّعاً، كما أن تعدد أساليب التعامل مع القوس أضفى أبعاداً تعبيرية لم تعرفها آلة الجوزة، هذا الدمج بين المدرستَين منحني أدوات جديدة لتوسيع آفاق الجوزة موسيقياً، ما جعلها أقدر على مواكبة الأساليب الموسيقية الحديثة من دون أن تفقد خصوصيتها.
في هذا الخصوص، ما الضوابط التي يجب مراعاتها برأيك عند تطوير أيّ آلة؟
ينبغي الموازنة بين الأصالة والرغبة في التحديث، فلا تفقد الآلة هويتها. وفي الوقت نفسه، تكتسب إمكانيات جديدة، فعلى الموسيقيّ الساعي للتطوير مراعاة الطابع الفريد لآلته، وإلّا أمست مجرد نسخة مشوهة من آلات أخرى. لهذا؛ يجب أن يلتزم التطوير بالإضافة وليس الاستبدال، من ثم يتيح ذلك للآلة الموسيقية القيام بأدوار جديدة من دون التخلي عن صورتها الأصلية، ويتطلب هذا المسار إجراء التعديلات بناءً على دراسات فيزيائية صوتية، لضمان أنّ التعديل لن يؤثر سلباً على أداء الآلة.
إلى أين وصلت في مشروعك لتدوين الموسيقى الشرقية المرتجلة منذ العصر الأندلسي؟ وما هي أبرز اكتشافاتك في هذا المجال؟
حالياً، أستكمل دراساتي العليا في ألمانيا، إذ أعمل على تدوين وكتابة نوتات المقام العراقي بتفرّعاته كافة، ليكون متاحاً للجميع في كتاب سيحتوي على تسجيلات للمقامات العراقية، وفق صيغة آلية، مخصّصة فقط للآلات الموسيقية الشرقية. هذا العمل نتيجة سبع سنوات من البحث والدراسة، إلى جانب تجارب أجريتها على المقام العراقي ونظرياته الموسيقية، عُدت خلالها إلى بدايات نشأة المقام العراقي في العصر العباسي، وعقدت مقارنة بينه وموسيقى العصور الوسطى الأوروبية، إضافة إلى الموسيقى الأندلسية في تلك الفترة. وعبر هذه الرحلة، توصلت إلى أسلوب جديد في كتابة النوتة الموسيقية، يمزج بين هذه التجارب المختلفة، مع إضافة رموز حركية حديثة من ابتكاري. وإلى جانب اللغة العربية، سينشر العمل أيضاً بلغات عدّة، حتّى يصل ذلك الإرث الحضاري العراقي الفريد إلى العالم أجمع.
كثير من الموسيقيين العرب في أوروبا يمزجون موسيقاهم ونظيرَتها الغربية، لكن تختلف انحيازاتهم لأي منهما، فإلى أي العالمَين تنحاز؟ وما الذي يميّز موسيقاك؟
لا أنحاز إلى أي منهما بالمُطلق. أرى نفسي جسراً بين العالمين، محاولاً الاستفادة من دقة الموسيقى الغربية من دون أن أفقد روح الموسيقى الشرقية. أما موسيقاي، فهي ثمرة تجربة طويلة من البحث والتجريب، أسعى من خلالها إلى الدمج بين الطابع التعبيري العميق للموسيقى الشرقية والبنية الدقيقة والمنهجية للموسيقى الغربية. خلال ذلك، أحاول جاهداً تجاوز القيود التي قد تعرقل الإبداع، بحثاً عن صوت موسيقيّ أكثر انفتاحاً وحرية. وهذا ما يحرّضني على استكشاف تقنيات أداء جديدة، وتوسيع حدودها الصوتية، وإثراء اللغة الموسيقيّة، فالموسيقى في تصوّري ليست مجرد تكرار للماضي، بل هي حوار مستمر بين الجذور والحداثة، بين الأصالة والابتكار. هذا هو جوهر الفن الحقيقي، وما تعلمناه في رحلتنا مع الموسيقى والحياة.
إذن كيف يمكنك وصف مزيج تقدمه من الموسيقى الشرقية والغربية؟
موسيقاي هي لقاء بين الحركية الرأسية (الغربية) والانسيابية الأفقية (الشرقية)؛ فعندما يُمزج بينهما وفق صورة مدروسة، ينشأ نوع موسيقيّ جديد، يجمع العمق الشرقي إلى الهندسة الغربية.
قدمتَ طيفاً واسعاً من الألوان الموسيقيّة، مثل الباروك والكلاسيك والجاز، عبر فرق أسّستها. ما غرضك من اصطحاب الجوزة إلى هذه العوالم غير المألوفة أو الغريبة عنها؟
لأنّني أؤمن أن الجوزة قادرة على تجاوز بيئتها التقليدية والتحول إلى آلة موسيقية عالمية، من ثم سعيت إلى إثبات قدرتها على التكيّف مع الثقافات المتنوعة؛ فالموسيقى، في جوهرها، لغة عالمية، ولا ينبغي حصر أي آلة موسيقية في إطار محلي ضيق، كما أنني لا أؤمن بوجود ما هو مألوف أو غير مألوف في الموسيقى، بل أراها فضاءً حراً للإبداع والتجريب، فلا توجد حدود، إنما احتمالات جديدة تنتظر أن تُكتشف.
في لقاء سابق ذكرت أن الموسيقى في العالم العربي ديكور وبهرجة. برأيك، ما الذي ينقصنا حتى نتجاوز تلك الحال؟
يحدث هذا عندما تتحول الفنون إلى مجرد مظاهر شكلية جذابة، من دون الاهتمام بجوهرها أو مضمونها، بل في بعض الحالات، يكون المضمون غائباً تماماً، ما يعكس قصوراً في الرؤية الفنية والإبداعية لدى بعض الفنانين. ولكي تتجاوز الموسيقى العربية هذا الإطار، وتستعيد مكانتها فناً راقياً ومؤثراً، يجب التركيز أولاً على الاهتمام بالفكر الموسيقي، فالموسيقى ليست منتجاً استهلاكياً، بل هي منظومة فكرية وإبداعية تحتاج إلى دراسة وبحث وتطوير مستمر، وثانياً علينا إحياء روح الإبداع والتأليف الحر، بدلاً من التركيز على النسخ والتكرار، عبر إعادة إنتاج القوالب الموسيقية القديمة نفسها، حتى وإن كانت جميلة، فالفن الحي هو الذي ينمو ويتجدّد.
وثالثاً، ينبغي على المؤسّسات أن تدعم الموسيقيين، فهم في حاجة إلى بيئة موسيقيّة حاضنة، تُقدّر الفن الأصيل وتمنحهم الفرصة لاستكشاف آفاق جديدة، بعيداً عن الضغوط التجارية التي تُفرض عليهم لتقديم أعمال سطحية تضمن الانتشار السريع. كذلك لا يمكن بناء مشهد موسيقيّ متطوّر من دون تعليم قائم على أسس علمية، يُتيح للجيل الجديد فهم الموسيقى بعمق وليس تقليدها فحسب. إلى جانب كل ذلك، يجب دمج الموسيقى العربية في حوار عالمي يراعي الانفتاح على التجارب الموسيقية العالمية، والاستفادة منها، ولا يعني ذلك بالطبع التخلّي عن الهوية، بل على العكس، هذا الانفتاح سيُثري الموسيقى العربية ويمنحها أفقاً أرحب.

Related News
