
أسدل، أول من أمس الاثنين، الستار على مسيرة أحد أعمدة الترجمة والنقد الأدبي في العالم العربي الأكاديمي والناقد الأردني محمد شاهين، الذي شكّل لأكثر من نصف قرن صوتاً ثقافياً فاعلاً، ومرآةً فكرية لعوالم الأدب الغربي والعربي على السواء.
وُلد شاهين في بلدة حلحول قرب الخليل عام 1938، في زمنٍ عربي متقلب سياسياً وثقافياً، ليبدأ رحلته المعرفية من الجامعة الأردنية ثم يتنقل بين جامعة عين شمس وجامعة كولورادو، ويصل إلى ذروة مساره الأكاديمي في جامعة كامبردج، حيث نال درجة الدكتوراه في الأدب الإنكليزي. لكن طموحه لم يكن علمياً فحسب، بل ثقافياً – يبحث في معنى الهوية، والحداثة، والترجمة بوصفها أداة مقاومة وتواصل في آنٍ معاً.
عُرف شاهين بترجماته الدقيقة والشاعرية في الوقت نفسه، فقد كان من القلائل الذين يُتقنون نقل روح النص لا حرفه فقط. ترجم أعمالاً كبرى لشعراء وكتّاب عرب إلى الإنكليزية، من أبرزهم محمود درويش، الذي رافقه في ترجمة مختارات من ديوانه "كزهر اللوز أو أبعد"، فضلاً عن تقديمه نصوصاً مختارة لبدر شاكر السياب، جبرا إبراهيم جبرا، وغسان كنفاني للقارئ الغربي.
وفي المقابل، نقل نماذج كلاسيكية وحداثية من الأدب الإنكليزي إلى العربية، أبرزها أعمال للشاعر الأميركي عزرا باوند، وت. إس. إليوت، ومفكرين مثل نعوم تشومسكي. لم تكن ترجماته مجرّد جهد لغوي، بل كانت قراءة تأملية للنصوص وسياقاتها، وقد برز في هذا الجانب ارتباطه النقدي بمدارس ما بعد الحداثة وما بعد الاستعمار، إذ سعى إلى تحليل الخطاب الغربي انطلاقاً من خصوصية عربية.
كان من الأصوات التي تمسكت بضرورة تأسيس "نقد عربي للحداثة"
في مقالاته ومحاضراته، كان شاهين من الأصوات القليلة التي تمسّكت بضرورة تأسيس "نقد عربي للحداثة" لا يقلّد، بل يعيد إنتاج المعنى في سياقه المحلي. كتب عن جبرا إبراهيم جبرا بوصفه "مثقف الحداثة المزدوج"، وقرأ أدب الطيب صالح من بوابة سرديات المنفى ومقاومة الاستشراق، كما قدّم تحليلات دقيقة لأعمال إدوارد سعيد، ليس من باب التأييد المطلق، بل من موقع المحاور الناقد.
لم يكتفِ شاهين بالكتابة الأكاديمية، بل شارك بفعالية في تأسيس البنية المؤسسية للثقافة في الأردن. تقلّد مناصب أكاديمية عليا في الجامعة الأردنية وجامعة مؤتة، وعمل مستشاراً في وزارة التعليم العالي. كما أشرف على تحرير مجلات ثقافية محكمة مثل المجلة الثقافية و"مؤتة للبحوث"، وساهم في لجان تحكيم جوائز عربية بارزة كجائزة الطيب صالح وجائزة الشيخ زايد للكتاب.
في 2005، توّج مسيرته بحصوله على وسام الاستقلال من الدرجة الأولى في الأردن، وجائزة جامعة فيلادلفيا للترجمة، كما كرّمته وزارة الثقافة القطرية بجائزة رفيعة تقديراً لإسهاماته في الفكر والترجمة.
برحيل الأكاديمي والناقد الأردني، تفقد الثقافة العربية أحد أبرز ممثلي "المثقف الموسوعي" الذي لا يرى في المعرفة سلطة، بل مسؤولية أخلاقية تجاه اللغة والناس والتاريخ.
