
استلهم الفنان العديد من موضوعاته من حياة الناس أثناء تجواله في الشوارع، حيث أعاد رسم الشخصيات العامة وتخليدها فنياً عبر حركاتها. ويُلحظ في لوحاته تعدّد الشخصيات التي تقترب أشكالها من مشهد العائلة، بخاصة النساء والأطفال، وهو يسير بين الناس ممسكاً بورقه وقلمه ليجسّد يوميات السكان في الأماكن العامة ويوثّقها.
في أرشيف مؤسسة بول غيراغوسيان التي تأسّست عام 2011، نُطالع صورة للفنان الفلسطيني (1926 – 1993) وهو يرسم متسوّلاً في حي برج حمود ببيروت. هذه لوحة من مجموعة لوحات بسيطة رسمها بالفحم على الأوراق المستعملة، لتشكّل نواة سجل بصري لتاريخ المهمّشين والمنفيين امتدّ طوال تجربته.
كانت تلك الشخصيات المجردة، رغم غياب الملامح، تحتفظ بهالة إنسانية كبيرة، وألوان تعكس عزلة المهاجر وتعدّد الهويات معاً. تعدّ هذه الصورة حجر الأساس للمرحلة المقبلة من عمل المؤسسة، عبر تطلعاتها لإصدار كتاب شامل يوثّق كامل أعمال غيراغوسيان، عشية مرور مئة عام على ميلاده، والذي سيحدّ من نشر المغالطات أو تداول أعمال مزيفة له في سوق الفن، بخاصة مع التقدير المتزايد لأعماله بعد رحيله.
تشتمل عملية الأرشفة على البحث والتدقيق في مواقع الأعمال الفنية والوثائق الأرشيفية الخاصة بحياته وأعماله، من أجل تصنيفها أو ترميمها، ومتابعة أماكن اقتنائها. وساهمت هذه الرحلة البحثية في امتلاك المؤسسة اليوم قاعدة بيانات شاملة، تحاكي الأسلوب المتحفي في سياسة التوثيق والتدقيق والمتابعة وحقوق النشر وغيرها، بعد أن جمعت مئات الصور للأعمال الفنية مع تفاصيل دقيقة وكاملة حولها، إضافة إلى توثيق مصدرها وموقعها الحالي، إلى جانب عدد كبير من الأرشيفات للصور، والنشرات النقدية، وكتيبات المعارض، والرسائل الشخصية، والمخطوطات، فضلاً عن التسجيلات الصوتية والمرئية، وإتاحتها للباحثين وطلّاب تاريخ الفن والقيّمين الفنيين والمهتمين بحياة الفنان وأعماله.
الناس والشارع
سعى الفنان بول غيراغوسيان نحو خلق هوية بصرية مختلفة، مزج فيها بين التقنية والموضوع الوجودي للإنسان، مستلهماً ذلك من مشاهد حياتية يومية للناس في الشوارع العامة، عبر شخصيات قام بتعريفها ونقلها من التهميش إلى الضوء، باحثاً عن ذاته من خلالهم بصياغة الواقع مرة أخرى، بإدراك واسع وشامل للتطور الفني كعملية إنتاج مستمر، مستكشفاً من خلالها اللون والضوء والخط، ومحوّلاً المألوف في موضوعه إلى شكل حساس وثاقب نحو التأمل.
امتاز أسلوبه الفني بضربات فرشاة طولية ومتراصّة، وتكثيف لوني، حيث فرض شكلاً من التنوع التقني يعكس طاقة تعبيرية هائلة استطاعت الحفاظ على استمرارية تميزها الجمالي، من خلال التوظيف اللوني الدرامي، والضوء المتوهج، وموضوعه الإنسان الذي لم يتخلّ عنه يوماً. اختزل الجسد الإنساني ذا التركيب العمودي المفصّل في خمسينيات وستينيات القرن الماضي إلى اختزال مجرد وهندسي أحياناً منذ سبعينيات القرن نفسه، ورغم ذلك ظلّت الروح الإنسانية والعلاقة الروحية مع هذه الأجساد أقوى من هندستها المجردة، بما يؤشر على صدقيته العالية في تناول موضوع الشارع والناس.
استلهم موضوعاته من حياة الناس أثناء تجواله في الشوارع
منذ مطلع الستينيات حتى السبعينيات، مرت أعمال بول بتطورات نوعية، تحولت فيها الأجساد المفردة والمشتتة إلى تكتلات بشرية ظهرت في كتل هندسية متلاصقة، حافظت على بيئتها المكانية وانعكاسها اللوني على شخوصه. ورغم رسمها في فضاء مفتوح يمكن تلمس علاقتها مع المكان كالسوق والشارع والزقاق، فإن أعماله نقلت التأثر الديني الكنسي إلى شكل مفتوح ومعاصر في حينه، عبر تفكيك هذه الرمزيات وتحويلها إلى مفردات مليئة بالتجريب والاكتشاف اللوني.
مكان مركب
انتشرت حول غيراغوسيان معلومات غير دقيقة كثيرة، دفعت عائلته لتأسيس أرشيف المؤسسة الفني، كعملية إنقاذ لحالة من الضياع، وكعملية إسناد موضوعي لتجربته المتعددة، لا سيما المعلومات المرتبطة بالسياق السياسي تحت الاحتلال في فلسطين وما حدث بعد النكبة. بذلك تحوّل الخطاب والأرشيف التقليدي إلى خطاب حداثي يتجاوز حدود الزمن، ويقف عند مواجهة مع التاريخ الذي تشظّت به المنطقة، والعلاقة المضطربة سياسياً وجغرافياً مع تاريخه الأرمني الذي تجانس فيه مع تجربته كفلسطيني في اللجوء والإبادة. واستطاع الفنان أن يعمل على صياغتها بصرياً بعد استقراره في لبنان، بحيث يعد ذلك تركيباً هوياتياً جمع بين ذاكرة جمعية وحاضنة شعبية تلهمه في تحديد هويته الخاصة والإنسانية، وبالمقابل تعينه على التعبير عن تجربته بشكل حسي وملموس، كما كانت في مرحلته الأولى من خمسينيات القرن الماضي التي تطرق فيها للتشخيص المباشر والتعبير عن الواقع المعاش، لتصبح قوته شاهداً تاريخياً وشخصياً للفنان، ترتبط بشكل وثيق بتجربة اللجوء ومشكلة المكان، باعتبار أنّ أرمينيا التاريخية وطن الأب، وفلسطين وطنه، ولاحقاً بيروت وطن أبنائه، مما يجعل أعماله خليطاً مركّباً بالزمن والمكان.
معاصر قبل أوانه
في عمله "الخروج 1973"، تظهر لوحته الزيتية على قماش بالأسلوب التعبيري التجريدي، حيث يتناول من خلالها موضوع التهجير الجماعي المستوحى من التهجير الأرمني الفلسطيني. في مشهد مسرحي يستعرض من خلاله جموع الأجساد المتراصة التي تقف بشكل أفقي في اللوحة، ما يوحي بحالة ضغط هائل وغياب المساحات الفارغة التي تسمح لهم بالتحرك أو التنفّس، وما طغى عليها من ألوان زيتية ترابية بين الأحمر القاتم والبني وما تحمله من مشاعر كئيبة عاشها اللاجئون.
نقلت أعماله التأثر الديني الكنسي إلى شكل مفتوح ومعاصر
تشير لوحة "صراع الوجود 1988" إلى روح وجودية تصرّ على البقاء والاستمرار، ورغم استخدامه لنفس الموضوع البشري، استطاع أن يوظفه في تقنية متقدمة ومختلفة عن السابق، غلبت عليها ضربات الفرشاة القوية وانتقل فيها من البنيات إلى الأزرق الداكن والأحمر مع بعض الضربات اللونية المضيئة والمشرقة، باحثاً فيها عن الأمل وتحويل شخوصه من مشهدية مباشرة الملامح إلى شخصيات رمزية تعكس واقع الإنسان. وفي تلك السنوات كانت الحرب الأهلية في لبنان لا تزال مستمرة، إلى جانب الانتفاضة الشعبية في فلسطين، وما تعنيه الكثافة البشرية والفراغ المحذوف في وسط تكتلات وعزلة مكانية وجغرافية في اللوحة.
آن للأرشيف أن يكون حيوياً
يعد الأرشيف أمراً بالغ الأهمية لمواصلة التعريف بحياة وأعمال بول غيراغوسيان، وربما إعادة علاقته بفلسطين كما أحب هو نفسه حينما رسم القدس وحيفا، إلى أن يكون هناك حلقة اتصال بين أصوله الأرمينية ومولده الفلسطيني وانتشاره اللبناني، ليجمع الجغرافيا والمكان، ويعيد تعريفه بشكل أكبر، لا سيما لجيل كبير من الشباب. كذلك يحتاج الأرشيف إلى التحرير ليصبح عاماً ومتاحاً للاستخدام، وليس للتوثيق فقط وبحسب إذن مسبق.
* فنان تشكيلي فلسطيني
