
في قلب صحراء ملتهبة بمنطقة “الصريح”، الواقعة على بعد 125 كيلومترًا غرب مدينة عدن، يحمل الطفل “جابر حنش (14 عامًا)” مع عدد من أقرانه أدوات الحفر التقليدية، باحثين عن أعواد الأراك (السواك) في وادي “عَبل”، أحد أكبر الأودية بمحافظة لحج، بهدف تأمين لقمة العيش، في بلد يعاني أسوأ أزمة إنسانية.
وبحسب تقديرات الأهالي، فإن عدد أشجار الأراك في الوادي تزيد على 3000 شجرة، يعتمد عليها 2000 نسمة من سكان قرية الصريح بمديرية المضاربة في الحصول على لقمة العيش.
هذه المهمة التي ورثها الأطفال عن آبائهم لم تعد كما كانت، فالحصول على عود أراك واحد في منطقة صحراوية ورملية بات يتطلب جهدًا كبيرًا ووقتًا أطول، وسط حرارة تقارب 40 درجة مئوية، وظروف بيئية قاسية، زادها تفاقمًا الجفاف والاحتطاب العشوائي الذي طال الأشجار.
مواضيع مقترحة
-
أطفال الريف في اليمن.. أحلام مُثقلة بأعباء الكبار
-
الفُلّ اللحجي.. مصدر رزق ورائحة منعشة
-
ريف تعز: أطفال يبيعون الخبز لأجل العيش
يقضي جابر ورفاقه قرابة ثمان ساعات يوميا تنقلا بين عدة أشجار بين الحفر والتقطيع لعيدان الأراك، وتجميعها قبل تسويقها؛ سواء بنقلها مباشرة إلى عدن أو عن طريق وصول تجار بالجملة يأتون المنطقة لشراء أعواد الأراك.
مهنة شاقة
يقول جابر لمنصة ريف اليمن: “العمل في مهنة استخراج الأراك باتت شاقة ومرهقة، لم تعد أعواد الأراك وفيرة كما في السابق، نعمل ساعات طويلة ولا نجد شيئًا أحيانًا، بسبب الحفر العشوائي وقطع الأشجار، بالإضافة إلى الجفاف الذي تسبب في تراجع كبير في كمية الأعواد المتوفرة”.
ويضيف: “الحفر العشوائي الذي مارسه بعض الشباب أدى إلى تدمير جذور الأشجار، وفقدان المنطقة لأحد أبرز مصادر الدخل التي اعتمدت عليها الأسر لسنوات، حيث كانت المهنة تجمع الكبار والصغار والنساء في مشهد يومي لكسب لقمة العيش”.
وأشار جابر إلى أنه كان قبل أربع سنوات يستطيع خلال يومين إلى ثلاثة أيام جمع 100عود ليقوم بإرساله إلى عدن لبيعه بمبلغ يتراوح بين 12000-15000 ريال في حين يضطر للبقاء في وادي عبل للحفر أياما قد تطول إلى أسبوع للحصول على هذه الكمية.
وخلال السنوات الأخيرة تفاقمت ظاهرة عمالة الأطفال في اليمن، حيث أجبرت الأوضاع المعيشية الصعبة العديد من الأطفال -خاصة في المناطق الريفية- على ترك مدارسهم، والانخراط في أعمال مختلفة مقابل دخل زهيد.
وتقدر دراسة حديثة حجم الأراضي المتدهورة الناتجة عن التغيرات المناخية -منها الانجرافات المائية والانجراف الريحي والتدهور الكيميائي- بنحو 5.6 ملايين هكتار، في حين 97% من أراضي اليمن تعاني التصحر بدرجات متفاوتة.
رغم كل الصعوبات ما يزال بعض الأطفال والشباب الذين لم يجدوا فرصة في التعليم أو العمل يعتمدون على هذه المهنة كمصدر دخل وحيد
وتشهد أعواد الأراك موسما رائجا في المواسم الدينية كرمضان ويخف الاقبال عليها بقية أشهر السنة، وأثرت الحرب على باعة الأراك، حيث كانت تذهب كميات كبيرة من الأراك إلى السعودية، وتباع بأسعار جيدة وبالعملة الصعبة، كما يشير جابر، ويُفضّل المشترون هناك الأعواد “الحارة” ذات القيمة الصحية العالية، مقارنة بالأعواد “الباردة” المتوفرة في السوق المحلية.
العمل بين لدغات الثعابين
لم تنحصر معاناة ممتهني بيع الأراك على الجفاف والاحتطاب والجرف العشوائي ثلاثي الرعب لدى أرباب هذه المهنة في تدمير هذه الثروة، فهناك خطر آخر يهددهم أثناء عملية الحفر يتمثل في الثعابين والعقارب التي تسكن باطن الأشجار. وبحسب شهادات الأهالي، فإن أكثر من عشرة أطفال وشباب تعرّضوا للدغات خلال السنوات الثلاث الماضية، بعضها كاد يكون مميتًا لولا تدخل الوحدة الصحية الوحيدة في المنطقة.
الطفل “صلاح رجوح (15 عامًا)” يروي لمنصة ريف اليمن كيف نجا من لدغة ثعبان، لكنه لم ينس حجم الخطر الذي كان يمكن أن يودي بحياته، خصوصًا في ظل غياب الأدوية والمستلزمات الطبية، واقتصار الخدمات على وحدة صحية صغيرة يشرف عليها عامل صحي واحد فقط.
يقول رجوح: ” بعض الأيام نخرج منذ الصباح للحفر دون أن نجد شيئًا، ننتقل من شجرة إلى أخرى، ونُصاب بالإحباط حين لا نجد حتى عودًا واحدًا. أحيانًا نأخذ معنا الطعام كي نستمر في العمل طوال اليوم. أصعب ما نواجهه هو الخوف من الثعابين والعقارب، خاصة وأن المنطقة تفتقر للرعاية الصحية”.
ولفت إلى أن صعوبة استخراج الارك سببها الجرف العشوائي الذي شهدته المنطقة خلال السنوات الماضية، ويضيف: “كنا نجد أعواد الاراك مباشرة عقب الحفر بمسافة قصيرة، وكنا نكتفي بالعمل فقط لفترة واحدة في حين أنه حاليا نعود في الظهيرة لتناول الغداء، ومن ثم نعود للبحث، وفي بعض الأيام نأخذ معنا الزاد من أجل استمرار العمل”.
شريان حياة للأسر
من جانبه، يقول “عبده الحيراني”، أحد وجهاء المنطقة، إن شجرة الأراك كانت تمثل شريان حياة لعشرات الأسر في الصريح والمناطق المجاورة، وخاصة في فترات ما قبل جائحة كورونا؛ حيث كان بيع الأراك إلى الخارج يحقق دخلًا جيدًا. لكنه يؤكد أن المهنة تشهد تراجعًا حادًا اليوم بسبب الجفاف والاستنزاف الجائر للأشجار.
أكثر من عشرة أطفال وشباب تعرّضوا للدغات خلال السنوات الثلاث الماضية بعضها كاد يكون مميتًا لولا تدخل الوحدة الصحية الوحيدة
ورغم كل الصعوبات، ما يزال بعض الأطفال والشباب الذين لم يجدوا فرصة في التعليم أو العمل، يعتمدون على هذه المهنة كمصدر دخل وحيد، وتلجأ العديد من الأسر لبيع الأراك في الأسواق الأسبوعية لتوفير احتياجاتها الأساسية.
ويلفت الجيراني إلى أن الاستغلال التجاري الذي يتعرض له باعة الأراك من بعض التجار يزيد من معاناتهم؛ حيث يُجبر الأطفال على بيع الأعواد بأسعار زهيدة نتيجة الحاجة الشديدة للمال.
وبحسب الأمم المتحدة، يعاني اليمن من أحد أعلى معدلات سوء التغذية المسجلة على الإطلاق؛ ما يؤثر سلبا على حياة كثير من الفقراء في البلد الذي يواجه واحدة من أسوأ الأزمات الإنسانية والاقتصادية بالعالم.
The post شجرة الأراك.. عائد إقتصادي تمنحه الصحراء first appeared on ريف اليمن.