
إن كان هناك من مرتجى أو أمل من حادثة تفجير كنيسة مار إلياس، فهو أنها لم تعفِ سورية من الخوض في حواراتها المؤجلة، فها هي من جديد تعود إلى فتح تلك الملفات الزلقة، المربكة، والمسببة للإحراج وللخجل. ها نحن نُسمّي طوائفنا بعُريها، بأسماء مواطنيها، ها نحن نعود إلى فتح ملفاتٍ على آخرها عن الداعشية والإسلام السياسي، عن حركات التكفير. ها نحن، وكما يجب أن نفعل، نفتح جراحنا الملضومة على عجل، بنزيزها وصديدها وقيحها، الذي إن لم يُفتح للهواء ليتنفس، سيُبتر في هذا البلد ما سيُبتر. يظن بعضهم أن حديث الطوائف والمذاهب والأديان مستجد، لكنه لطالما حضر بآليته صراعه منذ وُجد المؤمن واللامؤمن، منذ وُجد المصدّق والمكذب، منذ حضر الرسول والمشعوذ، فحديث الأديان وخلافاتها لم يكن يوماً ورديّاً، بل أقحوانياً، حارّاً بدمائه. واليوم، ومع مقاربتنا الحداثية، بتنا نستهجن ذاك الحديث، نتحاشاه، وقد نخجل منه. أحبّ أن أكون، مثل كثيرين، غير مضطرّة لإعادة تعريف البديهيات، وشرح المشروح، وإرساء القائم منذ وُجدنا ووُجدت الأخلاق. لكن ما لم ننتبه له أن سورية اليوم آتية من خراب عتيق، من تراكم انهيارات معلقة بشبكة خيوط عنكبوت هشّة، لكن خبيثة. نحن، من دون أن نبكي أطلالنا، ولا ننزع إلى اللطم والعويل والنواح، آتون من لحظة خراب كبرى، لم نغادرها بكاملها بعد. ليس بإمكاننا سوى أن نفتح نقاشاتنا العامة، حتى لو كانت صعبة وفضائحية وغير بروتوكولية. ليس بإمكاننا سوى أن نقشّر ثماراً جنيناها بعد سنواتٍ من خراب، حتى لو لم نرَ سوى فسادها.
لم يأت تفجير كنيسة مار إلياس حدثاً معزولاً عن سياقه. بل بدا نقطة في سياق طويل من الانهيار السوري، من المحو الممنهج لذاكرة التعايش، ومن تصاعد خطاب الكراهية وتطييف الدماء. لا يمكن أن يُقرأ تزامنه مع مجازر الساحل السوري مفصولا عن محاولة تعميق الشقاق، إعادة نفخ الروح في الانقسام المذهبي، والاستثمار في هشاشة الانتماءات. لكن ما لم يعد مقبولاً أن يُدار ذلك كله بصمتٍ خائف، أو بتقية لغوية تُمعن في تعقيم الألم وتدوير الزوايا. لسنا بحاجة لاستدعاء كل المرويات والوقائع من تاريخ الإسلام أو المسيحية أو غيرهما من الأديان، لندرك أن الصراعات الإيمانية والمذهبية كانت دوماً عنيفة، دامية، تُنَظَّر للقتل باسم الحقيقة. لكننا بحاجة اليوم أن نُعلن وعينا بها، أن نرفض استغلالها، أن نتحدّث عنها من دون حرج. لسنا أبناء آلهة، نحن أبناء جروح، أبناء هزائم، أبناء مدن مهدمة وأمّهات مذهولات وأطفال بلا مذاهب.
خوض هذا النقاش السوري الصعب بحاجة للشجاعة وللأخلاق في آن. إذ لطالما كشعب آثرنا الصمت، لطالما أرعبتنا الفجاجة، والبذاءة، والعري اللغوي. لكننا في لحظةٍ لا تستحي، فهل نستحي عنها؟ هل نستطيع أن نُمسك بأسلاك الحكاية العارية، نعرفها تلك الحكاية، فكل ما حصل مسجّل في خدر ضميرنا، الذي يعي أن مجازر الساحل الأخيرة ليست إلا نسخة محدثة من حفلات الذبح التي رافقت بدايات الثورة، ومن بعدها مجازر البيضا والحولة، وكل القرى المنسية التي سُحقت تحت صمتٍ إعلامي مريب، أو تواطؤ دولي أو مذهبي.
لكن، (دائما هناك لكن)، ثمة حكايات مضادّة صنعتها أصوات الناس العاديين، أولئك الذين لم تستهلكهم الأيديولوجيا، والذين ظلوا على قيد الحياة بفعل إكراهي للذاكرة، و للصبر، هم مرايا الكرامة المتوارية. حيث ظلّ الناس يقولون ما يجب أن يقال، يفعلون ما يجب أن يفعل، يعيشون رغم منطقية الموت، يتعايشون رغم الإحباط والعتب والخيبة، يتزاوجون رغم الحصار، ويتبادلون الخبز والدعاء وحكايات الشقاء.

Related News

