حرب البديهيات
Arab
1 week ago
share

تثبت التجربة السورية المريرة أن أسوأ عبارة في العالم يمكن قولها هي: هذا بديهي. 
على ما يبدو، لا شيء بديهي. وعلى كل شيء أن يكون قابلاً للأخذ والردّ، والنقاش والتبدّل والتغيير، وإلا سنبقى في هذه الحلقة المفرغة ندور فيها للأبد. 
مشكلة الإيمان ببديهية الأشياء أنها تقود صاحبها بسهولة إلى عتبات أخرى للدفاع عنها، بالقول واليد والسيف. إذاً كيف لمن ينكر بديهية كهذه أن يكون إنساناً سوياً، بل كيف يكون إنساناً أصلاً. 
ومن ليس إنساناً يسهل وضعه في قفص أو خُمّ، أو ذبحه بسكين جيدة. ولن يكون هناك مشكلة سوى إذا استخدمت سكيناً مثلّمة، أي بها "فلولٌ من قراع الكتائب". 
البديهي أن يعلق فلان وفلان على المشانق، والتأخّر في فعل ذلك سيعيق بناء البلد. أو البديهي أن يُستفاد من خبرة الفلان ذاته، وتسنيمه منصباً رفيعاً بصلاحيات واسعة، وإلا كيف سنتمكّن من بناء البلد؟ 
البديهي أن تتخذ الدولة قراراً عاجلاً وواضحاً بعزل كل من له صلة بمؤسسات النظام السابق، والبديهي أيضاً أن تقول الدولة بصوت واضح: عفا الله عمّا مضى. 
طبعاً، حوض العاصي جزء من النظام، ومن لم توافق عليه المخابرات لا يمكن أن يكون مهندساً، وإن صار، لن يسمح له بالوقوف على جسم سد. لا حول ولا قوة إلا بالله، إي تفكير ساذج وغير وطني هذا؟ إذا كانت مؤسّسة استصلاح الأراضي للنظام فما الدولة إذاً؟ 
وهكذا تدور كل النقاشات السورية اليوم، عند الحد الأقصى من التسليم للقناعات، والتعامل معها أجوبة نهائية لا تقبل المراجعة، بديهيات، أشياء يعرفها الإنسان السوي بالفطرة، ولا معنى لإضاعة الوقت في سماع من يخالفها. بل تأديبه وتوعيته بالطرق القاسية، فمن البديهي أن الطرق الليّنة استنفدت. 
رأيت فيديو قبل أيام يظهر فيه رجل جزائري، يحاجج ببعض البديهيات قبل أن ينتقل إلى الوعيد، والتلويح بحد السيف، يصرخ مستغرباً: ما هذا؟ أيرفع الصليب في دمشق؟ ما الذي يجري؟ كيف يحصل ذلك؟ ليس لكلامه كبير أهمية، وما كنت لأعلق عليه، لولا الملامح التي كَسَت وجهه، وهو يقول ذلك. وفيها استغراب ممزوج باستنكار وباستغباء الآخرين، يبدو مندهشاً من عدم انتباه الآخرين إلى هذه البديهية: أيرفع الصليب في دمشق؟ 
ماذا على المرء أن يفعل في حال كهذه؟ هل يحكي له التاريخ من أوله؟ هل ينفع أن يقال له: دمشق هي أول مكان في العالم رفع فيه الصليب؟ لا ينفع، لأن ذلك سيستدعي ان يخبره أيضاً ان الصليب ظلّ مرفوعاً في دمشق 19 قرناً، ولم يتناقض ذلك مع إيمان المؤمنين، وحياة الأحياء، وآذان المؤذنين، وصلاة المصلين. ومن دون أن يزعج أحداً ممن سكنوا هذه المدينة في القرون الخمسة عشر الأخيرة. وبينهم رجال من نوع ابن تيمية ومحي الدين بن عربي وأحمد العجلوني وعبد الغني النابلسي وأبي ذر الغفاري وأبي الدرداء وبلال الحبشي. 
من حقّ هذا الرجل ألا يرغب برؤية صليبٍ على الكوكب بكامله، كما من حقّ آخر ألا يرغب برؤية لحية هذا الرجل وملابسه في أي مكان بالعالم. 
المشكلة فقط أن كلا الرغبتين ليستا بديهيتين، مثل أي رغبة ورأي، وهما قابلتان للنقاش والدحض، والتجاهل والتسخيف. 
لا شيء بديهي، ربما تكون هذه هي البديهية الوحيدة القابلة للنظر، ريثما تثبت الفيزياء أو علم الاجتماع أنها ليست بديهية أيضاً، وأنها قابلة للطعن والخرق مثلها مثل أفكار الجميع.

Related News

( Yemeni Windows) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

All rights reserved 2025 © Yemeni Windows